طريق الهداية | ركن المرأة | مجلة بلاغ العدد السابع عشر ربيع الأول 1442هجرية

الأستاذة/ نسمة القطان

كنت صوفي والآن أنا مريم؛ لم أعد مسيحية أنا مسلمة“، بهذه الكلمات صفعت صوفي بترونين وجه الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون لدى استقباله لها في مطار فيلاكوبلاي.

ولدت صوفي بترونين “Sophie Pétronin”، مؤلفة كتاب: (طريق الهداية) “Le Fil de lumière” في مدينة بوردو ” “Bordeau يوم 7 يوليو 1945.

تركت هذه السيدة الفرنسية ذات الأصول السويسرية بريق الحضارة في مدينتها الساحرة لتنتقل إلى صحراء إفريقيا في مدينة جاو “”Gao المالية عام 1996، بعد أن درست الطب وتدربت على علاج أمراض المناطق الاستوائية الحارة وتخصصت في قضايا سوء التغذية عند الأطفال، وفي عام 1998 أسست صوفي جمعيةً لمساعدة الأيتام والفقراء في مدينة جاو شمال مالي، ثم استقرت بشكل دائم في تلك المدينة عام 2001، وفي عام 2004 ترأست بترونين منظمة “Association d’Aide à Gao” غير الحكومية التي تعمل في مدينة جاو لمساعدة الأطفال الذين يعانون سوء التغذية.

كانت السيدة صوفي بترونين نصرانية متمسكة بدينها تساعد الجمعيات والوفود التنصيرية العاملة في مالي وقد وفّر لها عملها الإغاثي علاقات قوية مع عدد كبير من المنَصرين والقساوسة الأوروبيين خلال زياراتهم التنصيرية لمالي.

عاشت السيدة صوفي بترونين بين الفقراء راعيةً للأيتام وكانت تتردد في تلك الفترة على القنصلية الجزائرية في مدينة جاو حتى عام 2012، حيث تعرضت لمحاولة خطف داخل القنصلية الجزائرية؛ لكن صوفي تمكنت من الهرب حتى وصلت إلى الحدود الجزائرية ثم ما لبثت بترونين أن عادت للعيش في جاو مرة أخرى لتكرّس جهودها في خدمة الأطفال الأيتام؛ بل تبنّت طفلةً مالية يتيمة فقدت والديها المسلمين.

وفي الساعة الخامسة من مساء يوم السبت 24 ديسمبر/كانون الأول 2016، اختُطفت صوفي على يد جهاديين يتبعون لتنظيم القاعدة بتهمة التنصير وظلّت أخبار الرهينة الفرنسية ذات السبعين عاما منقطعة لمدة ستة أشهر، ولم تُسفر عمليات البحث لقوات الأمن المالية عن أي نتائج، ولم تنجح عمليات برخان العسكرية في فك أسر الرهينة الفرنسية التي كان لقضيتها صدى واسع في الأوساط السياسية.

وفي أوائل يوليو/تموز 2017 خرج مقطع فيديو يحمل اسم جماعة: “نصرة الإسلام والمسلمين”؛ -وهي جماعة جهادية تابعة لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي- ظهرت فيه السيدة صوفي بترونين إلى جانب خمسة رهائن آخرين، حيث اتهمها التنظيم بممارسة التنصير تحت غطاء العمل الإغاثي، فخرج المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الفرنسية ببيان قال فيه: “إن الدبلوماسية الفرنسية تعمل بأقصى الحذر في قضية صوفي بترونين وذلك لأسباب أمنية واضحة“، فلم يعجب هذا التصريح ابنها سيباستيان شادو بترونين (Sébastien Chadaud-Pétronin) الذي هاجم بدوره الحكومة الفرنسية قائلا: “لقد اتخذوا قراراً بعدم التدخل؛ تخلت الحكومة عن والدتي“، ومنذ ذلك الحين أصبح اسم صوفي بترونين حاضرا في وسائل الإعلام العالمية؛ فهي حديث الساعة في الأوساط الفرنسية.

وفي مارس/آذار 2018 ظهرت صوفي بترونين في مقطع فيديو طالبت فيه الحكومة الفرنسية بإنقاذها من الأسر، ثم استغل المجاهدون فرصة مرضها العارض فظهرت في فيديو آخر في يونيو/حزيران 2018، وبدت فيه شاحبة جدا حيث ناشدت الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالاهتمام بقضيتها، ثم بث المجاهدون بعد ذلك في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، إصدارين يتحدثان فيهما عن تدهور صحة الرهينة الفرنسية.

كان لسيباستيان نجل صوفي أثرٌ كبير في محاولة الإسراع بالإفراج عن والدته حتى إنه نشر كتاباً بعنوان “أمي، معركتي”، انتقد فيه بشدة موقف الحكومة الفرنسية مما اضطر حكومته للخروج بتصريحات متتالية كان على رأسها تصريح لوزير الخارجية جان إيف لودريان في أيار/مايو 2019 قال فيه: “نحن نحشد من أجلها“. وفي 14 مايو 2019 قال ماكرون: “أفكر في صوفي بترونين على أيدي خاطفيها، لا ننسى ذلك ونضمن أن أمتنا لا تتخلى عن أبنائها“.

وفي يوم الخميس 8 تشرين الأول/أكتوبر 2020 كانت المفاجأة؛ حيث أعلن قصر الإليزيه إطلاق سراح آخر رهينة فرنسية محتجزة في العالم في عملية تبادل كبيرة للأسرى، وكتب ماكرون تغريدة على حسابه الرسمي عبر موقع تويتر قال فيها: “صوفي بترونين حرة.. إطلاق سراحها مصدر ارتياح كبير لعائلتها وأقاربها، أبعث برسالة تعاطف إلى السلطات المالية، شكرًا، الحرب على الإرهاب في منطقة الساحل مستمرة”، وقال أيضًا إنه تحدث إلى الرهينة المفرج عنها هاتفيًا، وأن ذلك أشعره بالارتياح ووعد بإلقاء خطاب النصر لدى استقبالها في المطار.

في اليوم التالي توجهت عدسات العالم إلى مطار فيلاكوبلاي لتنقل لحظة وصول الرهينة الفرنسية التي قضت في الأسر 3 سنوات و9 أشهر و15 يوما، في هذا اليوم؛ التاسع من تشرين الأول/أكتوبر 2020 وقف الرئيس الفرنسي ووزير خارجيته جان إيف لودريان أمام سلم الطائرة ينتظران نزول صوفي بترونين.

وقفت صوفي بحجابها الأبيض على سلم الطائرة تنظر إلى رئيس البلاد الذي طالما حارب الإسلام وقاد حروبا صليبية شرسة على المسلمين المستضعفين في الساحل الإفريقي، فابتدرها بقوله: “مرحبا صوفي” فردت عليه بثبات سمية وعزة أسماء وبحكمة عائشة وفصاحة الخنساء: “كنت صوفي والآن أنا مريم؛ لم أعد مسيحية أنا مسلمة”، وقعت كلماتها كالصاعقة المدوية على ماكرون الذي كان قد أعلن منذ أيام قلائل بغضه للإسلام ومواصلة حربه ضد الأصولية الإسلامية!!!

بعد أن عانقت مريم المسلمة ابنها وحفيدها توجهت برياح مرسلة إلى ماكرون لتعلمه درسا لن تنساه البشرية في تاريخ فرنسا.

وجهت مريم المسلمة لماكرون صفعات متتالية في شجاعة المؤمنة الواثقة بربها في حين ظل ماكرون مذهولًا من هول المفاجأة، قالت له مريم المسلمة:

“كنت أسيرة عندهم لكنهم لم يمسوني بسوء أبدا، وكانت معاملتهم لي كلها تقدير واحترام؛ كانوا يقدمون لي الطعام والشراب ويحترمون خصوصياتي، لم يتعرض لي أحد منهم بتحرش لفظي ولا جسدي، ولم يفرضوا عليّ الإسلام لكنني رأيته في أخلاقهم.

يا ماكرون إنهم أناس يتطهرون ويصلون للرب الصلوات الخمس ويصومون شهر رمضان، إنهم قوم متواضعون، بلادهم فقيرة لا يوجد فيها برج إيڤل ولا يتعطرون بالعطور الفرنسية لكنهم الأنظف أبدانا والأطهر قلوبا، لا يملكون السيارات الفارهة ولا يقطنون الأبراج العالية لكن همهم فوق السحاب وعقيدتهم أرسخ من الجبال الرواسي.

ماكرون، هل سبق لك أن سمعت تلاوة القرآن في الصلاة؟ ما أجملها حتى لو لم تفهم ما يرتلون!

هل سجدت قبل ذلك لله سجدة نسيت فيها همومك وأحسست فيها بقربه منك؟ هذه السجدة خير من الدنيا وما فيها! 

ألوان بشرة نسائهم سوداء فاحمة لكن قلوبهن أبيض من الحليب، هن يرتدين الثياب البسيطة لكنهن في أعين رجالهن مثل الحور الحسان، لا يختلطن بالرجال الأجانب ولا يختلين بهم ولا تُدخل إحداهن رجلا بيتها في غياب زوجها، لا يشربن الخمور ولا يلعبن القمار ولا يزنين في الشوارع.

يا ماكرون المسلمون هناك يؤمنون بكل الأنبياء حتى نبي الله عيسى الذي يحبونه أكثر منّا وأمه مريم التي أسميت نفسي على اسمها من كثرة حبهم وتعظيمهم لمكانتها”.

وهنا قاطعها ماكرون متسائلًا: “كيف يحبون المسيح أكثر منا؟!”.

فالتفتت إليه مريم المسلمة قائلةً:

نعم يا ماكرون؛ إنهم يحبون ويعظمون المسيح أكثر منا؛ لقد تعاملوا معي ومع غيري من الرهائن بأخلاق المسيح التي كنا نتعلمها في الكنائس لكننا للأسف لم نطبقها على أرض الواقع.

إن بلادنا سفكت دماء الأبرياء منهم باسم المسيح واستحلت بلادهم ونهبت ثرواتهم، أليس ظلما أن ننعم بخيرات بلادهم ثم نعتبرهم إرهابيين عندما يدافعون عن أرضهم؟!

وختاما أقول لك يا ماكرون:

هذا هو دين الإسلام الذي تحاربه أنت ليل نهار قد حرّك شغاف قلبي وملأ عليّ دنياي فما عدت أرى فرنسا بجمالها الفتّان أجمل من مالي الإفريقية المتواضعة، بل إنني قررت أن أعود إليها مرة أخرى لأعيش هناك وذلك بعد دعوة أهلي وأحبابي للإسلام؛ لأنني أريدهم أن يذوقوا حلاوة ما ذقته من عبادة الله الحق الذي لا إله إلا هو، وإنني أدعوك أنت أيضا أن تعيد حساباتك مع هذا الدين العظيم الذي هو رسالة كل الأنبياء والرسل من لدن آدم ومرورا بعيسى المسيح وختاما بسيد الأنام محمد صلى الله عليه وسلم“.

 

كان ماكرون يمشي بجوار مريم المسلمة مصغيا لحديثها دون أن ينبس ببنت شفة، ولما انتهت مريم من موعظتها البليغة غادر ماكرون المطار مسرعا يجر أذيال الخيبة، معتذرا عن إلقاء خطاب النصر على الإسلام الذي وعد به؛ فقد نصر الله دينه وأعز الله جنده وهزم سبحانه وتعالى الأحزاب وحده {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ}، إنّه الإسلام إذا حاربوه اشتدّ، وإذا تركوه امتدّ.

غادر ماكرون المطار وانفردت وسائل الإعلام بالسيدة المسلمة العجوز ذات الخمسة والسبعين عاما لتقول للصحفيين:

لقد بدأت (طريق الهداية) في مالي التي عشقتها من كل قلبي وسأعود قريبا إلى جاو إن شاء الله لأكمل طريقي إلى ربي مع هؤلاء المسلمين الفقراء“.

طريق الهداية | ركن المرأة | مجلة بلاغ العدد السابع عشر ربيع الأول 1442هجرية  الأستاذة/ نسمة القطان

لمتابعة مقالات العدد السابع عشر ربيع الأول 1442هجرية 

هكذا نصروه – التحرير

 الركن الدعوي

-الشهوة أصل الشبهة – الشيخ أبو اليقظان محمد ناجي

– عقائد النصيرية 10 – الشيح محمد سمير

– أحكام الجهاد مع الإمام الفاجر – الشيخ أبو شعيب طلحة المسير

– ويمشي في الأسواق – الشيخ همام أبو عبد الله 

– حب النبي صلى الله عليه وسلم – الشيخ أبو حمزة الكردي

 صدى إدلب 

– إدلب في شهر صفر 1442هـ – أبو جلال الحموي

– لقطة شاشة – أبو محمد الجنوبي

– مواقيت الصلاة في إدلب لشهر ربيع الأول 1442هـ – رابطة العالم الإسلامي

كتابات فكرية

– آفة الاستعجال – د. أبو عبد الله الشامي

– المعاركُ الجَّانبيةُ ومرارةُ الخُذلان – الأستاذ أبو يحيى الشامي

– أفغانستان جراح وآمال – إحسان الله (أنس الأفغاني)

– الحق أقوى من إعلامهم – الأستاذ خالد شاكر 

ركن المرأة

– طريق الهداية الأستاذة – نسمة القطان 

الواحة الأدبية  

– بين الإيمان والحب – الأستاذ غياث الحلبي

لتحميل نسخة من المجلة BDF اضغط هنا 

لمتابعة قناة مؤسسة بلاغ الإعلامية على التليجرام تابع

Exit mobile version