الآنسة: خنساء عثمان
ما أضعفنا نحن البشر وما أشقانا إذا لم نتصل بربنا ونعش في كنفه ونلتجئ إليه ونستعن به على لأواء هذه الدنيا التي هي بالأصل دار بلاء وابتلاء واختبار وامتحان لا تكاد تصفو لأحد.
تشغل طالبها بمتطلباتها حتى ينسى نفسه وينسى الهدف الذي جاء إليها من أجله وأنها دار عمل وزرع لدار القرار إما للجنة أو النار.
هذه هي الحقيقة.. فهل بإمكاننا أن نعيش في ظلالها ولا ننساها.. بالتأكيد لا.. فالدنيا تُنسي ومتطلباتها تُلهي ولابد من محطات فيها تشد بيدنا لتُرجعنا إلى دائرة الحقيقة والصواب.
وهذه المحطات هي شهور الطاعة والعبادة في أواخر كل سنة هجرية نختم بها عامنا من شهر رمضان.
شهر الصيام والقيام إلى شهر الحج شهر القربات والقربان، والسعيد من فهم حكمة الرحمن ولم يشغله الأدنى عن الأعلى، والزهيد عن النفيس ولم يعطله العمل للدنيا عن العمل للآخرة والحمد لله الذي بلّغنا شهر شعبان.
فلنكثر فيه من العبادة ونترك الانشغال بالفضول من تتبع الأخبار والتواصل الذي سلب منا الأوقات الغالية التي يجب على المؤمن أن يحافظ عليها في زمن الفتن.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «العِبادةُ في الهرَجِ كالهِجرةِ إليَّ» رواه مسلم عن معقل بن يسار رضي الله عنه، هذا الحديث ازددت فهمًا له عند انتشار وكثرة مواقع التواصل وشبكات الأخبار التي تسرق الأوقات وأغلبها ضئيلة الفائدة في أحسن أحوالها، فمن نجى وتخلص من شباكها وانشغل بالعبادة وقراءة القرآن فكأنه هاجر في سبيل الله.
فلنتهيأ لشهر الغفران بالإكثار من قراءة القرآن ومراجعته لعلنا نكون قد لبينا نداء الله عز وجل لنا في القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:42-41]
وفرقٌ كبير بين قوله: {اذْكُرُوا اللَّهَ} وبين قوله: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} فما العيش السعيد في الدنيا والآخرة إلا بالإكثار من ذكر الله، وما التوفيق إلا بالعيش مع الأذكار والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].
وقال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [الأحزاب:12-10]
وقال صلى الله عليه وسلم: «ألّظوا بـ يا ذا الجلال والإكرام» عن ربيعة بن عامر رواه أحمد والحاكم والنسائي.
فيا نفس شدي الهمة بالذكر ومراجعة الحفظ ومحاسبة النفس قبل فوات الأوان لعل الله يجعلنا من الذين ربحت تجارتهم، وها قد جاء شهر شعبان قبل شهر رمضان لنرتب أوراقنا ونحاسب أنفسنا ونستعد.
*جاء في كتاب مختصر منهاج القاصدين:
“اعلم: أن التاجر كما يستعين بشريكه في التجارة طلباً للربح، ويشارطه ويحاسبه، كذلك العقل يحتاج إلى مشاركة النفس، ويوظف عليها الوظائف، ويشرط عليها الشروط، ويرشدها إلى طريق الفلاح، ثم لا يغفل عن مراقبتها، فإنه لا يأمن خيانتها وتضييعها رأس المال، ثم بعد الفراغ ينبغي أن يحاسبها ويطالبها بالوفاء بما شرط عليها، فإن هذه التجارة ربحها الفردوس الأعلى، فتدقيق الحساب في هذا مع النفس أهم من تدقيقه بكثير من أرباح الدنيا، فحتم على ذي عزم آمن بالله واليوم الآخر ألا يغفل عن محاسبة نفسه، والتضييق عليها في حركاتها وسكناتها وخطراتها”.
*ويقول رحمه الله في نفس الكتاب:
“فإذا فرغ العبد من فريضة الصبح ينبغي أن يفرغ قلبه ساعة لمشارطة نفسه ويقول لنفسه مالي بضاعة إلا العمر فإذا فني رأس المال وقع اليأس من التجارة وطلب الربح وهذا اليوم الجديد قد أمهلني الله فيه وأخر أجلي وأنعم علي ولو توفاني لكنت أتمنى أن يرجعني إلى الدنيا حتى أعمل صالحا فاحسبي يا نفس أنك قد توفيت ثم رددت فإياك إياك أن تضيعي هذا اليوم واعلمي أن اليوم والليل 24 ساعة وأن العبد ينشر له بكل يوم 24 خزانة مصفوفة فيفتح له منها خزانة فيراها مملوءة نورًا من حسناته التي عملها في تلك الساعة فيحصل له من السرور بمشاهدته تلك الأنوار ما لو وزع على أهل النار لأدهشهم عن الإحساس بألم النار ويفتح له خزانة أخرى سوداء مظلمة يفوح ريحها ويغشاه ظلامها وهي الساعة التي عصى الله تعالى فيها فيحصل له من الفزع والخزي ما لو قسم على أهل الجنة لنغص عليهم نعيمهم ويفتح له خزانة أخرى فارغة ليس فيها ما يسوؤه ولا يسره وهي الساعة التي نام فيها أو غفل أو اشتغل بشيء من المباح ويتحسر على خلوها ويناله ما نال القادر على الربح الكثير إذا أمله قد فات وعلى هذا تعرض عليه خزائن أوقاته طوال عمره، فيقول نفسي اجتهدي اليوم في أن تعمري خزانتك ولا تدعيها فارغة ولا تميل إلى الكسل والدعة والاستراحة فيفوتك من درجات عليين ما يدركه غيرك”.
فما أجمل أن نحاسب أنفسنا في شعبان لنتهيأ لرمضان؛ أسأل الله أن يبلغنا إياه ويجعلنا من عتقائه، والأمر الذي يجب أن نهتم به في هذا الشهر هو مراجعة القرآن تجهيزًا لرمضان، وفقنا الله جميعًا لما يحبه ويرضاه..