الأستاذ: أبو يحيى الشامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
مع انطلاق الثورة السورية وتطورها إلى حمل السلاح للدفاع عن المظاهرات، ثم بدء معارك تحرير البلاد من النظام المجرم وداعميه، فُتحت الحدود لدخول الدعم الدولي المشروط والشعبي غير المشروط، ثم جُفِّفَ ومُنِعَ الدعم الشعبي، وبقي الدولي ليعبث في توازنات وتوجهات الفصائل الثورية، كما فُتحت الحدود لدخول المجاهدين أو لجمع كل من يحمل الفكر الجهادي في سوريا، وكانت التسهيلات عجيبة، رغم التعاون الدولي الكبير في محاربة الفكر الجهادي وتقييده، وحدثت اختراقات للثورة من هذا الباب.
تبين لاحقاً أن الدول تعاونت على تنفيذ خطة “عش الدبابير”، حيث يفتح المجال لمن يحمل الفكر الجهادي للوصول إلى البلد الذي فيه حربٌ، ويَعمَدَ إلى توجيه جموعهم من خلال الاختراق، ثم القضاء عليهم، وتقييد من بقي منهم، وهكذا انتقل عشرات الألوف من بلدان الشرق والغرب، وغرر تنظيم داعش بقسمٍ كبيرٍ منهم، عندما “تمدد” بسرعةٍ كبيرةٍ في سوريا والعراق، وانتهى الحال إلى ما تعلمون.
واليوم بعد تحرر سوريا من أول عقدةِ احتلال وهي عقدةُ النظام المجرم، يبدي الكثير من الناس تعجبهم من التهافت الدولي إلى التعامل مع الإدارة المؤقتة في دمشق، رغم أنها ليست توافقية، بل أمرٌ واقعٌ فرضه تنظيم واعتماد هيئة تحرير الشام منذ سنوات، ويتعجبون من القرارات التي كانت تبدي لها الدول حساسيةً عاليةً، مثل ترفيع قادةٍ مهاجرين إلى رتب عالية في الجيش، بالرغم من بقاء التصنيف على قوائم الإرهاب، وهذا التعجب نابعٌ من نظرةٍ عاقلةٍ لا عاطفية، فأهل العاطفة يملؤون وقتهم بالاحتفال ثم الأحزان.. وهكذا.
من اعتبر بالفخ الأول الذي نُصب للثورة السورية، لا يتعجب مما يجري الآن دولياً من دول محاربة ليس للثورة السورية فقط، بل لفكرة الثورة أساساً، فالدول الغربية تحب التعامل مع أنظمةٍ دكتاتوريةٍ شموليةٍ وراثيةٍ غير إسلامية، فهي أنظمة مفهومة مضمونة، لا تتغير صورتها ولا طريقة تعاملها ولا ولاؤها، والدول العربية تخشى من وجود مثالٍ شرعيٍ أو حتى ديمقراطيٍ يغري شعوبها المملوكة بالتغيير.
وعليه لا يمكن أن تتعامل كل هذه الدول مع الحالة السورية الناشئة بغير مكر ومحاولات إجهاض وتشويه، لتعطل الدولة السورية وتمنع مركزيتها، وليكون المثال السوري مرعباً لشعوب هذه الدول، وهذا يكون باستعمال الثورة المضادة التي تعود بالنظام السابق ربما بواجهات جديدة، أو استعمال نظام قهر جديد يمارس ممارسات ذاك النظام، ويكون هو بذاته الثورة المضادة، وإن رفع شعارات الثورة وتغنى بها.
الآن بعد تحرر الجزء الأكبر من سوريا، وبقاء أجزاء غير محررة، انفصاليتها مدعومة بشمل وقح من دول تدعي حرب داعش أو حماية الأقليات، تبقى هذه المرحلة مرحلة دراسة واقع وموقف، وإعداد خطة للمستجد الذي حدث، حيث لم يكن في الحسبان الدولي انهيار النظام المهترئ بهذه السرعة، أما وقد حدث، فإن المكر الدولي مستمر لإعادة الاستقرار الذي يناسبهم، أو الإبقاء على حالة الصراع الداخلي المعطل لسوريا وللمنطقة.
هنا يجب أن يعي أهل الثورة السورية التي قطعت شوطاً في سبيل الحرية والكرامة، وبقي لها أشواط، أن التعامل بعاطفية ورمي كل الطاقات في اتجاهٍ واحدٍ يؤدي إلى للصدام مع النظام الدولي أو الخضوع له، وفي الحالتين هناك خطر على ما تم تحقيقه إلى الآن، وإن من يضع كل بيضه في سلة واحدة يجازف به كله، وإن وجود أكثر من خط ثوري بينها تعاون وتكامل خير من وجود خط واحد مجتمع في الظاهر فقط أو تجمعه مصالح مادية لا مبدئية، ولعل القارئ اللبيب ينظر في الحالة العامة اليوم فيرى أنها قائمة على الحرج وخوف الاتهام، لا على الحق وتسمية الأمور بمسمياتها، خاصة بين الثوار، أما الفرقاء الآخرون فيعرفون ماذا يريدون ويصرحون به.
إن الحالة الثورية المنسجمة تماماً لا تعبر عن الحقيقة مطلقاً، ففي الدول المستقرة والقوية لا يوجد انسجامٌ تامٌّ بين مكوناتها، فهناك تيارات وتوجهات متعددة، وسلطات ومعارضة، يختلفون حتى في عناوين ومفردات الأمن القومي، ثم يتفقون على أساسيات تحقق المصلحة العامة لا الخاصة، والثورة أحق بهذه التفاعلات كونها تحالف قوى مجتمعية تكتسب الخبرات السياسية أثناء تطورها.
إن الثورة السورية تدخل اليوم معتركاً جديداً غير المعترك الداخلي مع النظام المجرم وداعميه المحتلين، الذي كان ينحصر ضمن جغرافيا سوريا أو شمال سوريا الذي حوصرت الثورة فيه سنوات، وإن من يطلب من أبناء الثورة أن يدخلوا باب النظام الدولي بسلة واحدة تحت سيطرة تجمع أو جماعة واحدة مصنفة أو غير مصنفة، خاضعة للابتزاز حالاً أو مآلاً يغشهم، وإن كان يسوق لهذا الغش بدعوى الانسجام، وإن كان يستعمل آيات الاعتصام ليحقق سيطرة مطلقة، فإن الاعتصام يكون بحبل الله، ربما بين تيارات قوية أو قبائل لها شوكتها، أو أهل حل وعقد مؤثرين، لا بين أفراد يسلمون قيادهم لمن هو مهدد مستدرج، يتنازل للغرب والغريب، ويرفض خفض الجناح للمؤمنين.
قال الله تعالى مخبراً عن يعقوب عليه السلام وبنيه الذين ذهبوا إلى مصر: {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ ۖ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ ۖ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ * وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا ۚ وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف:67-68]، والحاجة التي في نفس يعقوب هي الأخذ بالأسباب حذراً أن يُحاط بهم، فإن دخلوا من أبواب متفرقة وأحيط ببعضهم نجا البعض الآخر، وقام بالمطلوب، والله أعلم وأحكم، فهل كانت سياسة يعقوب عليه السلام مخالفةً للاعتصام بحبل الله، ضارة بالجماعة والطاعة، أم العكس؟
لا بد من وجود خطٍّ ثوري آخر أو عدة خطوط، تكون حرة موازية، داعمة مدعومة، شريكة في التصدي للتحديات والتغيير نحو الأفضل.
نسأل الله أن ييسر الخير لنا ولكم وللمسلمين، والحمد لله رب العالمين.