زلزلة المجاهد – مجلة بلاغ العدد ٤٦ – شعبان ١٤٤٤هـ

الشيخ: أبو حمزة الكردي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:

عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ العِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلاَزِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الهَرْجُ وَهُوَ القَتْلُ القَتْلُ».

والعبد المؤمن مأجور فيما يصيبه من منحة أو محنة أجرًا وثوابًا، فإن كان خيرًا حمد الله وأثنى عليه، وإن كان شرًا حمد الله وصبر واسترجع (إنا لله وإنا إليه راجعون)، فعن صهيب بن سنان الرومي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» رواه مسلم.

وإذا كانت زلزلة الله لعباده المسلمين في الدنيا تطهيرًا لهم من الذنوب ورفعة في الدرجات وزيادة في الحسنات، فهي للمجاهدين منهم في سبيله أعظم وأكثر خيرًا، لأنهم من أشد الناس تعرضًا للبلاء والفتن والمحن والزلازل في الدنيا، ففي الجهاد يجتمع على المجاهد قلة النصير مع شح المال وقلة العدة والعتاد، إلى زلزلة الأرض مع زلزلة القلوب وزيغ الأبصار وبلوغ القلوب الحناجر.

 

وفي الجهاد في سبيل الله عز وجل تجتمع الزلزلة الحسية والمعنوية لذا فهو ذروة سنام الإسلام، كموضع السنام من الجمل؛ يسهل ركوب الجمل لكن يصعب الثبات على السنام لكثرة اهتزازه وزلزلته لمن يجلس عليه، وكذلك الجهاد لشدته وزلزلته لا يثبت عليه إلا من ثبته الله.

والمجاهدون الصادقون كلما كانت قلوبهم أكثر إيمانًا وانقيادًا وتسليمًا وذلًا وطاعًة وعبادةً لله، كانوا أكثر ثباتا وصلابة عند الزلازل.

وبين زلزلة الأرض وزلزلة القلوب يمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين، ويقلّب من حالٍ إلى حال، فيظهر المؤمن من المنافق، والمطيع من العاصي، والصادق من الكاذب، ولا يثبت إلا من ثبته الله.

وعلى مر العصور والأزمان كانت الفتن والمحن والابتلاءات والمصائب والزلازل القوية الماحقة الماحصة يسقط بسببها الدخلاء ويصبر الصادقون ويثبتهم الله، فكلما كانت قلوبهم متعلقة بربها حالًا وفعلًا وقولًا كانت نتيجة الزلزلة زيادةً في الإيمان والتسليم بقضاء الله وقدره وموعوده، قال تعالى: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) ثم تكون بعد ذلك منحة ونصر وفرج وتمكين، فيصطفي الله من عباده المجاهدين لهذا النصر من شاء.

 

* وقد ورد ذكر زلزلة المجاهدين في القرآن الكريم في عدة مواضع:

 

– قال الله عز وجل: (هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا): يقول السعدي رحمه الله في تفسيره: “(هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ) بهذه الفتنة العظيمة (وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا) بالخوف والقلق، والجوع، ليتبين إيمانهم، ويزيد إيقانهم، فظهر -ولله الحمد- من إيمانهم، وشدة يقينهم، ما فاقوا فيه الأولين والآخرين”.

– وقال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) يقول السعدي رحمه الله في تفسيره: “يخبر تبارك وتعالى أنه لا بد أن يمتحن عباده بالسراء والضراء والمشقة كما فعل بمن قبلهم، فهي سنته الجارية، التي لا تتغير ولا تتبدل، أن من قام بدينه وشرعه، لا بد أن يبتليه، فإن صبر على أمر الله، ولم يبال بالمكاره الواقفة في سبيله، فهو الصادق الذي قد نال من السعادة كمالها، ومن السيادة آلتها.

ومن جعل فتنة الناس كعذاب الله، بأن صدته المكاره عما هو بصدده، وثنته المحن عن مقصده، فهو الكاذب في دعوى الإيمان، فإنه ليس الإيمان بالتحلي والتمني، ومجرد الدعاوى، حتى تصدقه الأعمال أو تكذبه.

فقد جرى على الأمم الأقدمين ما ذكر الله عنهم (مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ) أي: الفقر (وَالضَّرَّاءُ) أي: الأمراض في أبدانهم (وَزُلْزِلُوا) بأنواع المخاوف من التهديد بالقتل، والنفي، وأخذ الأموال، وقتل الأحبة، وأنواع المضار، حتى وصلت بهم الحال وآل بهم الزلزال إلى أن استبطأوا نصر الله مع يقينهم به، ولكن لشدة الأمر وضيقه قال (الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ).

فلما كان الفرج عند الشدة، وكلما ضاق الأمر اتسع، قال تعالى: (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) فهكذا كل من قام بالحق فإنه يمتحن، فكلما اشتدت عليه وصعبت، إذا صابر وثابر على ما هو عليه، انقلبت المحنة في حقه منحة، والمشقات راحات، وأعقبه ذلك الانتصار على الأعداء، وشفاء ما في قلبه من الداء، وهذه الآية نظير قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) وقوله تعالى: (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) فعند الامتحان يكرم المرء أو يهان”.

– ولعل من أعظم الزلازل التي يتعرض لها المجاهد في أيامنا هذه هي الثبات على طريق الجهاد في سبيل الله وحده لا في سبيل دنيا من جاه ومال وحزب..، وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا غلو ولا جفاء ولا إفراط ولا تفريط، في وقتٍ تاجر فيه الخبثاء بدماء الشهداء وآلام الأمة، يضاف إلى ذلك زلازل القصف والتهجير والفقر والمرض وشدة البرد وتكالب الأعداء، ولكن البشرى للصادقين؛ فقد سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله، ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد، قال: كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة».

وما هذه الزلزلة للمجاهد في الدنيا إلا تمهيد له للنجاة في الآخرة، فما الدنيا إلا ممر والجنة هي المستقر، وألمُ هذه الزلزلة العارضة مس قرصةٍ تُجتاز به أهوال القبر والصراط والصعاب والأهوال يوم القيامة إلى جنة عرضها السموات والأرض، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنْ مَسِّ القَتْلِ إِلَّا كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مِنْ مَسِّ القَرْصَةِ».

* خاتمة:

اللهم احفظنا في أنفسنا وأهلنا ومالنا، اللهم آمنا في أوطاننا، اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا، واحفظنا من بين أيدينا من خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا، اللهم اربط على قلوبنا وأسماعنا وأبصارنا أبدًا ما حيينا، فتلهج ألسنتنا بذكرك ونبتعد عن معصيتك ونداوم على طاعتك، إنك ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين..

Exit mobile version