الأستاذ: غياث الحلبي
استشهدت عائلة وضاح وأصبح يتيما، وتكفل دحام زوج خالته وفاء برعايته، وفور قدوم وضاح إلى البيت سارع دحام باصطحابه إلى مركز إحدى المنظمات التي تكفل الأيتام وتقدم لهم يد العون والمساعدة، وهناك دون اسم وضاح في جدول الأيتام الذين تكفلهم تلك المنظمة وتكفلت المنظمة بخمسين دولارا شهريّا مع بعض المساعدات العينية التي تأتي في المناسبات كلباس العيد وهداياه، ولكن دحاما توسل لهم بأن هذا الطفل فقد أباه وأمه وإخوته وليس مجرد يتيم فقط، وأنه يحتاج لرعاية خاصة، فاستثنته المنظمة وجعلت كفالته مائة دولار شهريا وليست خمسين دولارا كبقية اليتامى.
وعند حلول رأس الشهر قبض دحَّام المائة دولار ثم عاد إلى زوجه متصنعا الورع مرائيا بالقناعة والزهد، وقال لها: اسمعي يا امرأة، أنا سأقف مع هذا اليتيم وسأراعيه جدا وأعامله أفضل معاملة، وسأحتسب ما أنفقه عليه زيادة عن المائة دولار لوجه الله تعالى.
فذهلت المرأة وفغرت فاها من الدهشة، وقالت: مائة دولار وزيادة؟!
فقال: هذا هو الواقع، ولكني أريد أن أكسب أجرا في هذا اليتيم.
وصدمتها إجابة زوجها جدا، وهمّت أن تصرخ وتقول له: يا ظالم اتق الله، هذا يتيم لا حول له ولا قوة، تريد أن تستولي على ماله، ألا تخاف الله؟ ولكنها خشيت بطشه وتجبره، واكتفت بأن قالت له: أظن الأمر غير ذلك.
فتغير وجه دحَّام وارتفعت نبرة صوته مع حدة شديدة، وقال: تعالي احسبي بالورقة والقلم.
خمسة وعشرون دولارا أجرة سكنه، علما أننا لو أردنا استئجار بيت له فلن نجد بأقل من خمسة وثلاثين، إضافة إلى أن بيتنا مفروش بالأمتعة التي يحتاجها من الأثاث والفرش.
وخمسون دولارا ثمن طعام وشراب إفطار وغذاء وعشاء وفواكه وحلو ومشروبات، وخمسة وعشرون دولارا للملابس والكهرباء والماء والدواء، وخمسة وعشرون دولارا للدراسة والألعاب والأعياد والتنقلات، وخمسة وعش..
قاطعته وفاء: كفى كفى، ونظرت إلى زوجها فرأت الشرر يتطاير من عيونه، وكأنه ينتظر كلمة معارضة ليعصف بها ويحول جلدها إلى ألوان قوس قزح، فلم تملك إلا أن قالت له: جزاك الله خيرا.
فقال بابتسامة خبيثة: هذا الكلام الذي يسمع، ولا يشكر الله من لا يشكر الناس.
كانت نفس دحام قد بلغت الحضيض في الدناءة والطمع، فكان شيطانه يسول له ليسرق مزيدا من المال باسم هذا اليتيم، فكان كثيرا ما يتحدث في مجالسه وبين معارفه أن الحياة صعبة، وأنه يتحمل ويضحي من أجل هذا اليتيم الذي جاء في زمن الحرب، فكان كثير ممن يسمعون هذا الكلام يرسلون لدحام كل فترة أموالا وإغاثات لأجل أن يرعى هذا اليتيم الذي عنده.
مرت الشهور والسنون سريعة، وبدأ وضاح يدرك الظلم المحيق به من قبل زوج خالته دحَّام، إلا أن أشد ما كان يؤلمه ويحز في نفسه ويستثير غضبه عندما يسمع دحَّاما وهو في مجلسه يتكلم عن اهتمامه بيتيمه ورعايته واحتساب الأجر في ذلك، ثم يتبع ذلك بالترهيب من أكل أموال اليتامى، وما أعد الله لمن يأكل أموال اليتامى من أليم العذاب وشديد العقاب، ويختم حديثه بذكر تفاهة الدنيا وحقارتها وأنها لا تستحق أن يضيع الإنسان آخرته لأجلها.
كان وضاح عندما يسمع هذا الحديث يود لو أنه تحول إلى بركان ثم انفجر في وجه دحام فأحرقه وأحرق معه نفاقه السمج الممجوج، فلا أقبحَ من خائن لص يدعي الشرف والأمانة، وقد همَّ مرارا أن يصرخ في وجهه أمام الضيوف كفاك كذبا ونفاقا أيها المجرم، إلا أنه آثر السلامة ورأى نفسه في غنى عن حماسة لا تُحمد عقباها، حتى كان ذات يوم واجتمع دحام كعادته بضيوفه وابتدأ يعيد موعظته الكاذبة، ولكنه هذه المرة أضاف إليها فقرة جعلت صواب وضاح يطيش؛ فقد ذكر أنه اضطر من أجل الإنفاق على وضاح إلى بيع أسورة زوجته الذهبية كي لا يشعر وضاح أنه أقل من رصفائه ولا يحس بمرارة فقد الأب والأم.
سرى التوتر في كل ذرة من ذرات جسم وضاح، فصرخ بصوت عال: كفى كفى كفاك كذبا ونفاقا، ألا يكفيك أنك تسرق الأموال التي تأتيني من المنظمة والتي تتسولها باسمي ثم أنت اليوم تكذب باسم خالتي وذهبها؟ أما لك دين يردعك أو خلق يرفعك؟
دارت الأرض بدحام وشعر بخزي شديد مع غضب عارم، وود لو أن الأرض فتحت فاها وابتلعته، ولكي يدرأ عن نفسه التهمة التي وصمه بها وضاح وبدا أن الجمع قد تلقوها بالتصديق والقبول، أخذ يعدد أفضاله على وضاح ثم اتهمه بنكران الجميل، وعلم دحام في قرارة نفسه أن زمن السرقة باسم اليتيم قد انتهى، وأن اليتيم أصبح شابا يصعب ترويضه، عندها أمر بطرد وضاح من المنزل، وحتى يقطع الطريق على كل محاولة إصلاح قد تأتي مستقبلا فإنه أتبع الطرد بحلفه بالطلاق ثلاثا ألا يعود إلى المنزل ثانية.
خرج وضاح كاسف البال حزينا، ولكنه لم يداخله شعور بالندم قط على ما فعل، فهو واثق من صواب فعله وموقن بأن الله سينتقم له، وقد يمهل الله الظالم ويؤخر عقوبته حينا لكنها لا محالة واقعة ومحيقة به.
سمع شيخ القرية بقصة وضاح ذلك اليوم فسارع بالبحث عنه حتى وجده فأخذ يلاطفه ويخفف من حزنه ويحاول رفع ركام الألم الجاثم على صدره حتى انشرح صدر وضاح وسلا عن حزنه، ولكن لا زالت أمامه عقبات كثيرة، فأين يسكن؟ وكيف يواجه مصاعب الحياة؟ غير أن شيخ القرية أزال مخاوفه كلها عندما عرض عليه أن يُدخله معهدا داخليا يتعلم فيه ما ينفعه ويكفيه مؤنة ما سبق.
سار قطار الذكريات بوضاح بعد أن استعرض غدر عمه بوالده ثم غدر زوج خالته به، وهو الآن يستعرض بذهنه مرحلة حياته الجديدة ومشهد دخوله المعهد وجلوسه بين زملائه الطلبة، ثم دخول المدرس عليهم، واستمر في ذكرياته حتى أحس بيد زميله تحط على كتفه لتوقظه من ذكريات الماضي وتسوقه إلى واجبات الحاضر، التفت وضاح إلى زميله الذي سأله: ما لك شارد هكذا يا وضاح؟ هل أنهيت حفظ دروسك؟
وهنا نفض وضاح هموم الماضي عن جنبيه ليعيش يومه الحاضر ويستعد لمستقبل يرجو أن يكون أفضل مما سبقه.
انتهت.