الأستاذ: غياث الحلبي
تذكر وضاح نفسه وعمره ثماني سنين وهو يذهب إلى المدرسة في الصباح وإلى معهد القرآن بعد الظهر، ثم يعود عصرا إلى البيت ليأخذ طعام الغداء وينطلق به إلى أبيه في الحقل، ثم يعود أدراجه إلى البيت.
وفي ذات يوم عاد من معهد القرآن وكالعادة أعدت أمه طعاما ليأخذه إلى أبيه الذي لا يزال يعمل في الحقل منذ الصباح وقد لفحه هجير الحر وكوته الشمس بسياطها، يأخذ وضاح الطعام بعد أن طبعت أمه قبلة على وجنته، ولم يخطر في باله قط أن هذه هي المرة الأخيرة التي يرى فيها أمه على قيد الحياة، أو أن هذه القبلة ستكون الأخيرة.
مضى وضاح ككل الأطفال يركض تارة، ويمشي أخرى، ويتوقف ثالثة ليتأمل طائرا يبحث عن طعام لفراخه أو ليرقب دودة صغيرة تزحف ببطء بين التربة أو ليمتع ناظريه برؤية بعض النباتات بديعة الشكل، ثم يدرك أنه تأخر على أبيه فيعاود الركض، وأخيرا وصل إلى حيث يعمل أبوه فيقبل يده ثم يناوله الطعام، ويقف وضاح قليلا ليسأله والده عن حال أمه وإخوته في البيت، ثم يسأله عن دراسته ويستخبره عما حفظ اليوم من القرآن أو نقشه في ذاكرته من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.
وبينما الوالد وابنه يتجاذبان أطراف الحديث؛ إذ نادى المراقب في المرصد عبر القبضة: يرجى الانتباه وأخذ الحيطة والحذر، حربي روسي في الأجواء.
ولم تكن تلك الكلمات إلا شيئا متكررا اعتاده الناس وألفوه، ومع عجز الفصائل عن إيجاد حل يتصدى لهذا الطيران المجرم الذي يوقع يوميا العشرات من الشهداء اتخذ الناس من الإيمان بالقدر والدعاء مسلاة لهم، فما إن يسمعوا بخبر تحليق الطيران حتى يبادروا ويقولوا: “اللهم بردا وسلاما، اللهم اجعل كيدهم في نحرهم”، ثم يتابعوا حياتهم قائلين: “إللي إلو عمر ما بتقتلوا شدة”، و (لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا)، وربما زاد بعضهم فتفلسف قائلا: “لا داعي أن نخاف من القصف؛ لأن سرعة الصاروخ والقذيفة أكبر من سرعة الصوت لذلك ما سيقتلك لن تسمع صوته”.
وفجأة انقضت الطائرة ونفثت حممها محدثة دويا عظيما وانفجارا كبيرا، نظر أبو وضاح إلى الدخان المتصاعد، وخمن أن القصف وقع قريبا من منزله، فأصابه الهلع وطلب من وضاح أن يبقى هنا ريثما يذهب فيطمئن على أهل بيته ثم يعود، وانطلق يُغِذ السير مسرعا، وربما حمله الخوف على أهله فأطلق العنان لساقيه يسابق بهما الريح، حتى وصل فرأى أن القصف وقع قريبا من داره ولكنها لم تصب بأذى، فدخل البيت مهنئا أهله على السلامة معانقا صغاره فرحا بنجاتهم، ثم همَّ بالخروج والعودة إلى الحقل، وما إن خرجت إحدى رجليه من الباب حتى انقض صاروخ جديد محطما الدار ممزقا من فيها من البشر، مفتتا ما بنيت به من الحجر، جاعلها أثرا بعد عين، وركاما من الحجارة.
ظل وضاح ينتظر قدوم أبيه غير عالم بما جرى حتى أوشكت الشمس على المغيب، وخشي أن يحل الظلام ولا يقدر حينئذ على العودة وحده خوفا من الكلاب أو بنات آوى التي تنتشر مساء بحثا عن طعامها، فآثر أن يرجع إلى الدار، وانطلق يغذ الخطى نحو بيته، ولما وصل رأى الناس متجمعين حول تلة من الأحجار والأتربة كانت منزلا في السابق.
أخذ وضاح يتصفح وجوه الناس كالمجنون ويعدو هنا وهناك بحثا عن أبيه أو أمه أو أحد إخوته ولكن دون جدوى، ولم يرغب أحد أن يصدع قلبه الصغير ويخبره بالحقيقة التي لم يكن أحد قادرا على إخفائها.
وأخيرا جاءت خالة له فضمته إلى صدرها وهي تبكي، فسألها سؤاله البريء: أين بابا وماما وإخوتي؟ فقالت: لقد رحلوا إلى الجنة، وانهمرت الدموع غزيرة من عينيه فقد كان يحاول مغالطة نفسه كثيرا قبل سماعه هذا الخبر، ويحاول إقناعها أنهم خرجوا من البيت قبل أن يصبحوا ركاما.
كان الدفاع المدني قد فرغ من رفع الأنقاض وإخراج الجثث المغبرة، ألقى وضاح نظرة أخيرة على أسرته قبل أن تمضي به خالته وتوصي بعض الأشخاص أن يصحبه إلى دارها بينما تقوم بوداع أختها.
تحول وضاح ليعيش في بيت خالته “وفاء”، كانت وفاء في منتصف العقد الثالث من عمرها، وهي امرأة كمعظم نساء الريف لم تحظ بقسط وافر من التعليم، وبالكاد تستطيع القراءة والكتابة، فقد أُخرجت من المدرسة عندما كانت في الصف الثالث الابتدائي لترافق أسرتها وتعينهم على العمل في أرضهم الزراعية، وإلى ذلك فوفاء امرأة متدينة تخاف الله وتتقي المحرمات، ولكن يشتمل تدينها على خرافات تخالف عقيدة الإسلام الناصعة.
أما زوجها دحَّام فرجل جلف غليظ قاسي القلب قليل الدين، يقدم المال على كل شيء، وقد اشتهر عنه قوله: “مستعد لبيع أبي مقابل المال”، وقد عانت وفاء من زوجها الشرير الظالم كثيرا.
ولكن العادات والتقاليد المهترئة ونظرة المجتمع القاسية إلى المرأة المطلقة أجبرتها على كتم جراحها والصبر على أذى زوجها وعنفه وقسوته؛ فيجب على وفاء أن تستيقظ مبكرا جدا فتعتني بالداجن، ثم تعد طعام الغداء [هذا اسمه الصحيح لغة]، ثم تنظف الصحاف والآنية بعد ذلك وتستعد للانطلاق لتعمل في الأرض الزراعية، ثم تعود ظهرا لتعد وجبة طعام أخرى وتنظف البيت وتنشغل بشؤونه، بينما زوجها قاعد في المضافة مع رفاقه وأولاد عمه، فإذا حل المساء ومضى منه هزيع قام دحام إلى فراشه وربما كان متضايقا من أمر ما فيفرغ غضبه وسخطه في زوجه، وقد يتطور الأمر إلى ضربها.
كانت وفاء تخشى أن يعارض زوجها ضم وضاح إلى بيته، فهي تعلم حرصه على المال وبخله به، ولكنها فوجئت بزوجها يستقبل ابن أختها وضاح أجمل استقبال وأحسنه، ويرحب به أفضل ترحيب، فظنت أن قلبه رق لهذا اليتيم المسكين الذي فقد أسرته كاملا وأضحى كالفرخ الملقى على قارعة الطريق في ليلة مطيرة شاتية.
والحق أن ظن وفاء كان في واد وتفكير دحام في واد آخر، فقد رأى في وضاح صيدا ثمينا لا يفرط في مثله إلا أحمق، وبالطبع لم يدر في خلده ما ورد من فضل في كفالة اليتيم وحسن رعايته والعناية به وإكرامه، بل كان ما سيطر على تفكيره هو العائد الدنيوي الذي سيناله من المنظمات التي سيسجل فيها وضاح لتقدم له كفالة شهرية، وحتى يُعمِّي ذلك على الناس فقد اتخذ من حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين، وأشار بالسبابة والوسطى” اتخذ من هذا الحديث جُنة يتقي به ظنون الناس، فكان كلما جلس مجلسا ذكر هذا الحديث وتفاخر بما منَّ الله به عليه من كفالة هذا الضعيف المسكين…
يتبع في العدد القادم إن شاء الله.