الشيخ: أبو شعيب المصري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد؛
فإن خطر العملاء جواسيس العدو على الأمة شديد وعلى المجاهدين أشد، ومع توارد الأخبار عن انكشاف أعداد منهم ارتكبوا من جرائم التجسس على المسلمين ما تسبب في ضياع مناطق وقتل مجاهدين ودمار واسع، كانت هذه الكلمات المختصرة في حكم العملاء الجواسيس المنتسبين قبل تجسسهم للإسلام.
* معنى العمالة والجاسوسية:
المقصود هنا بالعمالة والجاسوسية هو: تتبع أخبار المسلمين، والبحث عن عورات الأمة، والتفتيش عن بواطن الأمور، وطلب معرفة الأحوال الغائبة، ونقلها خفية للعدو، قال الخرشي في شرح مختصر خليل: “هو الذي يطلع على عورات المسلمين وينقل أخبارهم للعدو”.
والعمالة كلمة كثيرا ما تستخدم في هذا العصر بمعنى كلمة الجاسوسية التي كانت تستخدم كثيرا فيما سبق، وأصلها أجر ما عمل؛ فالغالب على الجواسيس أنهم يعملون للأعداء مقابل أجر يأخذونه منهم.
فالعمالة والجاسوسية بهذا المعنى نوع من أنواع النفاق التي تكيد للأمة دون أن تظهر التحاقها بجيوش العدو وقتالها المسلمين في صفوفه.
* خطر العمالة والجاسوسية:
العمالة للأعداء والتجسس لصالحهم؛ جريمة كبرى وخيانة عظمى، وسبب في إضعاف المسلمين وتقوية المشركين، وهي نوع من البراءة من المؤمنين والموالاة للكافرين، وبيع للدين بالدنيا، واختيار للخسة والنذالة، وسلوك سبيل المغضوب عليهم والضالين.
والأدلة في النهي عما فيه موالاة للكفار ونصرتهم ضد المسلمين كثيرة؛ منها قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ).
وقوله تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُوٓاْ ءَابَآءَكُمْ وَإِخْوَٰنَكُمْ أَوْلِيَآءَ إِنِ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْكُفْرَ عَلَى ٱلْإِيمَٰنِ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ)
وقوله تعالى: (تَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ۚ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِى ٱلْعَذَابِ هُمْ خَٰلِدُونَ).
وقوله سبحانه: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ۚ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ). قال الطبري عن الوليجة: “نهى الله المؤمنين أن يتخذوا من عدوهم من المشركين أولياء يفشون إليهم أسرارهم”.
* حكم العملاء والجواسيس:
موالاة الكفار درجات:
– منها ما هو كفر وردة عن الإسلام؛ مثل: القتال في صفوف الكفار ضد المسلمين، ولبس شعار الكفر الخاص بهم كالصليب..
– ومنها ما هو منهي عنه وليس كفرا؛ مثل: بدئهم بالسلام، والإقامة بين ظهرانيهم بلا مسوغ شرعي.. والتجسس درجات ومراتب؛ منه ما يرتقي لمرتبة الكفر ومنه ما هو محرم بشدة وكبيرة من عظائم الإثم والفجور..
وقد سلك بعض المشايخ طريقين:
– أحدهما: ألحق بعضهم جل أعمال التجسس بمناصرة الكفار بالقتال ضد المسلمين فجعلهما شيئا واحدا حكمه الكفر والردة، ومن هؤلاء الشيخ أبو يحيى الليبي في كتابه المعلم في حكم الجاسوس المسلم؛ أكبر مخرجٌ حيث يقول: “التجسس بنقل العورات لهم كفرٌ أكبر مخرجٌ من الملة”..
– الثاني: ألحق بعضهم مناصرة الكفار بالقتال ضد المسلمين بالتجسس فجعلهما شيئا واحدا وأنه كبيرة من الكبائر دون الكفر، ومن هؤلاء الشيخ ابن جبرين في كتابه تسهيل العقيدة الإسلامية؛ حيث يقول: “أن على المسلمين بأي إعانة ويكون الحامل له على ذلك مصلحة شخصية، أو خوف، أو عداوة دنيويّة بينه وبين من يقاتله الكفار من المسلمين، فهذه الإعانة محرمة، وكبيرة من كبائر الذنوب، ولكنها ليست من الكفر المخرج من الملة”.
حكم غير هذين الطريقين، وأن يقال:
– إن التجسس الذي اتسع عمله فشارك صاحبه في القتال المباشر مع الكفار ضد المسلمين؛ كأن تحول المتجسس لطليعة لجيشهم أو دليلا بينهم..، هو من القتال في صفوف الكفار ضد المسلمين، وهو موالاة لهم كبرى وردة عن الإسلام، ويدخل فيمن قال فيهم الله جل وعلا: (وَكَانَ ٱلۡكَافِرُ عَلَىٰ رَبِّهِۦ ظَهِیرًا)، وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، «أنأناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأتي السهم فيرمى فيصيب أحدهم فيقتله أو يضربه فيقتله، فأنزل الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)»، قال ابن جرير في تفسيره: “من تولاهم ونصرهم على المؤمنين فهو من أهل دينهم وملتهم فإنه لا يتولى متول أحدًا وسخطه وصار حكمُه حكمَه”، وقال ابن حزم في المحلي: “من لحق بدار الكفر والحرب مختارا محاربا لمن يليه من المسلمين، فهو بهذا الفعل مرتد له أحكام المرتد كلها”.
– علم أنه سبب مباشر وإعانة ظاهرة تحقق في غلبة الظن وقوع الكفر وحصوله؛ كمن يكون تجسسه هو دليل الكفار لرفع شعار الكفر بديار المسلمين والاستهانة بمقدسات الإسلام فيها، هو كفر وردة عن الإسلام؛ لأنه إعانة على الكفر.
– والتجسس الذي يدل جيش الكفار على عورات المسلمين ويحذرهم تحركات المجاهدين؛ يشتمل في كثير من الأحيان على حب للكفر أو رضا به أو بغض للإيمان أو استهزاء بالشريعة، فصاحبه في الحقيقةكافر مخلد في نار جهنم وإن لم يثبت ذلك أحيانا أمام الناس في الدنيا.
– أما التجسس الذي يدل جيش الكفار على عورات للمسلمين بلا حب لدينهم ولا بغض للإسلام ولا فعل غيرها من النواقض، فهذه مسألة مبحوثة في كتب أهل العلم ليست حادثة، وجمهور أهل العلم على أن فاعل ذلك على شفا جرف هار مرتكب لكبيرة من أعظم الكبائر، ولكن لا يحكم عليه بالردة، والأصل في ذلك قصة حاطب عندما أرسل لقريش يخبرهم بقرب تحرك المسلمين لفتح مكة، فهذا فعل تجسس والزعم بأنه مجرد إفشاء سر لا يستقيم؛ فهو إخبار لكفار قريش عن تحرك للمسلمين خفي عليهم قد يؤدي لاستعدادهم وحصول بعض القتل في الصحابة، وإن كان حاطبا مع ذلك موقنا أن النصر في نهاية المعركة للرسول صلى الله عليه وسلم، قال الشافعي في الأم تعليقا على قصة حاطب: “ولا أحد أتى في مثل هذا أعظم في الظاهر من هذه؛ لأن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مباين في عظمته لجميع الآدميين بعده، فإذا كان من خابر المشركين بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غرتهم، فصدقه ما عاب عليه الأغلب مما يقع في النفوس، فيكون لذلك مقبولا، كان من بعده في أقل من حاله وأولى أن يقبل منه مثل ما قبل منه”.
– وسبب التفريق بين حكم مناصرة الكفار بالقتال في جيشهم ضد المسلمين وحكم التجسس بدون ذلك، أن الأول هو التولي المطلق للكفار ونصرتهم نصرة ظاهرة، وعليه تحمل أدلة كفر من تولى الكفار عملا بظاهر حالهم، وبهذا حكم الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة على من كان في صف المشركين يوم بدر وأحد، وعلى هذا الأمر نص كثير من علماء الإسلام عبر العصور على ردة من فعل ذلك، أما الجاسوس الذي أصله الإسلام فنصرته للكفار يحتمل أن تكون نصرة ليست مطلقة، فلوجود الاحتمال لم تثبت بذلك الردة على بعض الحالات، ولهذا لم يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة على بعض الجواسيس بالردة، ونص أكثر أهل العلم على عدم ردة مثل هذا الجاسوس، بل نقل بعضهم الإجماع على عدم كفره، ودعوى الإجماع غير مُسَلَّمٍ بها؛ فالتفريق بين حكم المسألتين هو الأقرب لفهم النصوص، والموافق لكلام جمهور أهل العلم، والمؤيد بالتطبيق العملي عبر التاريخ.
– وكون تكفير بعض الجواسيس أو عدم تكفيرهم مسألة اجتهادية لا يعني التساهل في مواجهة هؤلاء المجرمين والتنكيل بهم وقطع دابرهم وجعلهم عبرة؛ فتشرع عقوبتهم العقوبة الزاجرة الرادعة؛ وقد قاس بعض الفقهاء فعل الجاسوس على فعل أهل الحرابة فقال ابن رشد في البيان والتحصيل: “الجاسوس أضر على المسلمين من المحارب، وأشد فسادا في الأرض منه؛ وقد قال الله تعالى في المحارب: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)
والذي يظهر أن عقوبة الجاسوس ليست حدا منصوصا عليه، بل ترجع للاجتهاد الذي يزجر الفاعل ويردع غيره ويحبط كيد العدو، قال ابن القيم في زاد المعاد: “جواز قتل الجاسوس وإن كان مسلما؛ لأن عمر رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل حاطب بن أبي بلتعة لما بعث يخبر أهل مكة بالخبر، ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يحل قتله إنه مسلم، بل قال: «وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم» فأجاب بأن فيه مانعا من قتله وهو شهوده بدرا، وفي الجواب بهذا كالتنبيه على جواز قتل جاسوس ليس له مثل هذا المانع، وهذا مذهب مالك، وأحد الوجهين في مذهب أحمد، وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يقتل، وهو ظاهر مذهب أحمد، والفريقان يحتجون بقصة حاطب. والصحيح: أن قتله راجع إلى رأي الإمام، فإن رأى في قتله مصلحة للمسلمين قتله، وإن كان استبقاؤه أصلح استبقاه”.
* أسأل الله أن يرد كيد العملاء الجواسيس في نحورهم، وأن يطهر البلاد من رجسهم، وأن ينصرنا عليهم وعلى أسيادهم.
والحمد لله رب العالمين.
لتحميل نسخة من مجلة بلاغ بصيغة BDF اضغط هنا
لمتابعة بقية مقالات مجلة بلاغ اضغط هنا