الشيخ: أبو شعيب طلحة المسير
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد؛
أولا – معنى التحالف:
لكل كلمة أصل وسياق واستخدام يحدد المعنى المراد لهذه الكلمة في هذا الموطن، وكثيرا ما تؤدي الكلمة الواحدة معان عديدة في سياق واحد أو عدة سياقات؛ لذا اعتنى العلماء بتوضيح التعريف أو الحد للمصطلح العلمي الذي يتكلمون حوله، وقد كثرت عبر تاريخ الأمة الكتب التي تعتني بتوضيح معاني اصطلاحات العلماء، ومنها على سبيل المثال: مفاتيح العلوم للخوارزمي، والفروق اللغوية للعسكري، وطلبة الطلبة في الاصطلاحات الفقهية للنسفي، واتفاق المباني وافتراق المعاني للدقيقي، والتعريفات للجرجاني، ومعجم مقاليد العلوم في الحدود والرسوم للسيوطي، وكشاف اصطلاحات الفنون والعلوم للتهانوي…
فإذا ما نظرنا لكلمة التحالف؛ فالمعنى الأصلي لكلمة الحلف هو التعاهد والتعاقد والتناصر، قال الجوهري في الصحاح: “الحلف بالكسر: العهد يكون بين القوم. وقد حالفه، أي عاهده. وتحالفوا، أي تعاهدوا”.
وقال ابن الأثير في غريب الحديث: “أصل الحلف: المعاقدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد والاتفاق”.
– وهناك معنى للتحالف أخص من هذا المعنى العام، فهو يعنى بعقود مستمرة موثقة باليمين وتترتب عليه أحكام في الميراث، قال الخليل في كتابه العين: “حالف فلان فلانا فهو حليفه وبينهما حلف؛ لأنهما تحالفا بالأيمان أن يفي كل لكل، فلما لزم ذلك عندهم في الأحلاف التي في العشائر والقبائل صار كل شيء لزم شيئا لم يفارقه حليفه”.
وعن هذا التحالف قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ): “كان الرجل يحالف الرجل ليس بينهما نسب فيرث أحدهما الآخر فنسخ ذلك الأنفال” رواه أبو داود.
ومن هذا الباب ما جرى من تحالف ومؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، قال أنس رضي الله عنه: «حالف النبي صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار في داري» متفق عليه.
ثانيا – صور التحالف:
مشروعية العمل الجماعي وتناصر المسلمين وتعاونهم أصل عام لا ينبغي أن تكون في مشروعيته تنازع أو اختلاف.
وهناك تفصيل في المعاني الخاصة للتحالف والتي يدخل فيها التعاقد المستمر والموثق بالأيمان والتي تترتب عليها أحكام في الميراث والديات وما شابه ذلك، والتي ورد فيها قوله صلى الله عليه وسلم: «لا حلف في الإسلام وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة» رواه البخاري، وقوله صلى الله عليه وسلم: «أوفوا بحلف الجاهلية فإنه لا يزيده -يعني الإسلام- إلا شدة، ولا تحدثوا حلفا في الإسلام» رواه الترمذي.
ففهم هذا الحديث وما شابهه يشتمل على عدة أمور اتفق الفقهاء على بعضها وتعددت أقوالهم في بعضها، ومن ذلك:
أ – أن التحالف الذي يشمل نصرة الحليف ظالما ومظلوما باطل لا يقره الإسلام.
ب – وأن أحلاف الجاهلية التي كانت قبل الإسلام وقامت على ما لا يخالف الإسلام كنصرة المظلوم أقرها الإسلام وزادها قوة كحلف الفضول، قال عليه الصلاة والسلام: «شهدت حلف المطيبين مع عمومتي وأنا غلام، فما أحب أن لي حمر النعم، وأني أنكثه» رواه أحمد.
ت – وأن التوارث والعقل بهذه الأحلاف منسوخ، وهذا قول جمهور الفقهاء، ويرى الحنفية أنه إن عاهد شخص شخصا على أنه إن جنا فعليه أرشه وإن مات فميراثه له إن لم يكن له وارث فالعهد صحيح بشروط يذكرونها، وهذه المسألة ليست محلا للبحث هنا.
ث – وأن تحالف الكفار مع بعضهم ضد المسلمين يجعلهم طائفة واحدة، فنقض طائفة منهم لعهدها مع المسلمين هو نقض لكل الحلف الكافر، فعن عمران بن حصين رضي الله عنه، قال: «كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل، فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بني عقيل، وأصابوا معه العضباء، فأتى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الوثاق، قال: يا محمد. فأتاه، فقال: ما شأنك؟ فقال: بم أخذتني وبم أخذت سابقة الحاج؟ فقال إعظاما لذلك: أخذتك بجريرة حلفائك ثقيف» رواه مسلم.
ج – أما التعاهد ببين المسلمين على نصرة المظلوم أو فعل طاعة من الطاعات، فقد تعددت أقوال العلماء في ذلك على أقوال أهمها:
– أن ذلك جائز ولا بأس فيه:
قال ابن حزم في المحلى: “وما معنى بقاء الحلف إذًا؟ قلنا: معناه ظاهر، وهو أن يكونوا معهم كأنهم منهم، فإذا غزوا غزوا معهم، وإذا كانت لهم حاجة تكلموا فيها كما يتكلم الأهل، وما أشبه ذلك”.
وقال النووي في شرح مسلم: “وأما المؤاخاة في الإسلام والمحالفة على طاعة الله تعالى والتناصر في الدين والتعاون على البر والتقوى وإقامة الحق فهذا باق لم ينسخ، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث: «وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة» وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «لا حلف في الإسلام» فالمراد به حلف التوارث والحلف على ما منع الشرع منه”.
وقال ابن حجر في فتح الباري: “المنفي ما كانوا يعتبرونه في الجاهلية من نصر الحليف ولو كان ظالما ومن أخذ الثأر من القبيلة بسبب قتل واحد منها ومن التوارث ونحو ذلك، والمثبت ما عدا ذلك من نصر المظلوم والقيام في أمر الدين ونحو ذلك من المستحبات الشرعية كالمصادقة والمواددة وحفظ العهد”.
وقال الكشميري في فيض الباري: “واعلم أن أخوة الإِسلام وحِلْفَه فوق سائر الأخوات والمحالفات، ثم إن احتاج إليها فهي جائزة”.
– أن ذلك ممنوع:
لأن نصرة المظلوم وما شابهها طاعات مشروعة لا تحتاج توثيقا بالتحالف، قال ابن هبيرة في الإفصاح: “المحالفة حرام؛ لأنه إن كان يتحالفان على حق، فلأن الله تعالى أمرهما به، فلأن يأتيانه امتثالًا لأمر الله تعالى خيرًا لهم من إتيانه من أجل أنهما كانا تحالفا عليه، وإن كانا يتحالفان على فعل باطل فذلك لا يحل الوفاء به ولا عقده”.
– وقال ابن تيمية: “النزاع في مؤاخاة يكون مقصودهما بها التعاون على البر والتقوى؛ بحيث تجمعهما طاعة الله وتفرق بينهما معصية الله، كما يقولون: تجمعنا السنة وتفرقنا البدعة. فهذه التي فيها النزاع. فأكثر العلماء لا يرونها؛ استغناء بالمؤاخاة الإيمانية التي عقدها الله ورسوله؛ فإن تلك كافية محصلة لكل خير، فينبغي أن يجتهد في تحقيق أداء واجباتها؛ إذ قد أوجب الله للمؤمن على المؤمن من الحقوق ما هو فوق مطلوب النفوس، ومنهم من سوغها على الوجه المشروع إذا لم تشتمل على شيء من مخالفة الشريعة”.
– وقال ابن القيم: “الله تعالى قد ألف بين المسلمين بالإسلام وجعلهم به إخوة متناصرين متعاضدين يدا واحدة بمنزلة الجسد الواحد فقد أغناهم بالإسلام عن الحلف، بل الذي توجبه أخوة الإسلام لبعضهم على بعض أعظم مما يقتضيه الحلف، فالحلف إن اقتضى شيئا يخالف الإسلام فهو باطل، وإن اقتضى ما يقتضيه الإسلام فلا تأثير له فلا فائدة فيه”.
– وقال الصنعاني في التنوير شرح الجامع الصغير: “«ولا حلف في الإسلام» لأن أخوة الإِسلام ووجوب نصر الأخ ظالمًا أو مظلوما قد أغنى عنه، فهذه العهود التي يأخذها الأئمة عند عقد البيعة على العظماء من الناس على المناصرة والوفاء كأنها مبنية على أن النهي هنا الذي أفاده النفي الكراهة”.
* ولعل القول الأول الذي يرى جواز التحالف والتعاهد على فعل طاعة من الطاعات هو الأوجه، وتوثيق الطاعة بالعهد متكرر في الشريعة؛ فمن ذلك: التبايع عند الجهاد، ونذر فعل الطاعة، وتوثيق الأفعال باليمين، بل إن اليمين في الشريعة معتبر في تقييد المباح، فاعتباره كذلك في توثيق الطاعة واضح متجه، مع التأكيد على أن هذا الحلف إن وقع لا بد أن ينضبط بضوابط الشرع؛ فلا حزبية مقيتة، ولا تعصب للباطل، ولا نصرة للظلم، ولا تقاعس عن نصرة بقية المسلمين..
والحمد لله رب العالمين.
لمتابعة بقية مقالات مجلة بلاغ العدد السابع والثلاثون ذو القعدة ١٤٤٣ هـ اضغط هنا
لتحميل نسخة من مجلة بلاغ العدد السابع والثلاثون ذو القعدة ١٤٤٣ هـ اضغط هنا