الأستاذ: أبو يحيى الشامي
إن ما يجعل الأمم ترزح تحت نير التجهيل والتضليل والظلم والاستعباد هو الوهم الذي يزرع ويكرس الوهن في القلوب والعجز في الأجساد، هذا الوهم ذاته يجعل جلَّ من يتمكن يظلم نفسه وغيره ويسعى في الأرض فساداً وينسى ساعة الحساب، هذا وهم القوي المتمكن والضعيف المتمسكن بدوام العاجلة له أو عليه وبُعد الآخرة.
لولا هذا الوهم لما بقي ظالم ولما حكم كافر، ولما ابتعدت الأمة المسلمة عن المنهج الرباني خوفاً من أحد ولا طمعاً فيما عند أحد، ولولا هذا الوهم لما عجز أبناء الأمة عن اقتلاع الكفر والفساد وتغييره، ولما تأخرت الثورة حتى قامت واتسعت، وفي الحقيقة هي ثورة على الوهم الذي هو أداة من أهم أدوات الشياطين على مر الزمن.
إن هذا الوهم الناتج في الغالب عن النسيان -وهو صفة الإنسان- هذا الوهم يجعل المرء عرضة لزوال القيم والمبادئ، وبالتالي زوال الذات في الدنيا ووزنها في الآخرة.
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ (26)} [إبراهيم: 24-26].
إن القوة والثبات ليست بالحجم والشكل والصيت، إنما بالجذور الممتدة تستقي من مادة الوحي الشريف وتتشعب في بدن الأمة، من وعى ذلك وطبقه ثبته الله، ومن أضل نفسه وغيره عن ذلك أضله الله، واقتلعته رياح وسيول الفتن والمحن، مهما انتفش وبلغ من القوة الظاهرة.
{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27].
يضل الله الظالمين الذين يتوهمون القوة ودوامها، ويضل الله الظالمين الذين يتوهمون القبول من الله ومن عباده، ويضل الله الظالمين الذين يتوهمون خدمة الدين بالعمل الخبيث، ويضل الله الظالمين الذين يتوهمون تحقيق الإنجازات ورضا عتاة الناس ومجرميهم.
{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20].
هذا مثال كل الدنيا، فكيف بمن حاز جزءاً قليلاً قليلاً منها، إن ذلك جاء ملخصاَ في قصة قارون -لعنه الله- قال الله تعالى مبيناً الداء: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص: 79]، ثم قال الله تعالى مبيناً العاقبة والدواء لقارون ولغيره من المستكبرين والضعفاء، {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83].
إن الثورة على الظلم لا تقبل الاختزال ولا الاجتزاء ولا الاحتكار ولا التحيز ولا تقبل أنصاف الحلول، وإن ميزان الثورة المختل يُودي بها وبأهلها، وإن الثورة الظالمة تأكل نفسها قبل وأكثر من أن تأكل عدوها.
{فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [يونس: 23].
إن التغيير في كل زمان ومكان ممكن، إن كان نحو الأفضل أو نحو الأسوأ، وإنما ثلثا التغير وأكثر وعيٌ يطرد الوهم، وعلم بالواقع والممكن والاستطاعة، ثم إذا استمر أو طرأ وهم الدنيا وما فيها، ظهر الفشل والتنازع وعمت البلوى.
{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 152].
هذه العشر سنوات التي مضت كانت كفيلة بتعليم من أراد أن يتعلم، وجَهَّلت أناساً كثراً بفعلهم، كانت في بدايتها ثورة على وهم السيطرة النصيرية ووهم استحالة التغيير، ثم كان الفساد الذاتي وسيطرة الظالمين من بني جلدتنا ووهم استحالة التغيير، فهل تستمر الثورة عامة شاملة، وتقتلع الوهم وأسبابه ونتائجه… هذا ما نأمل.
إن القلة الذين يقضون على الوهم ويعرفون الحقيقة تهون عليهم الدنيا بما فيها ويثبتون في مواجهة أطغى الطغاة وأعتى المستكبرين، بعيدين كانوا أم قريبين، وهذا فضل من الله يستحقونه {قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه: 72]، هذه القلة المحمودة في القرآن الكريم إنما مدحت لأنها حققت النصر الأكبر في المعركة الأكبر، وكل شيء بعدها يهون، والعاقبة للمتقين.