الشيخ: أبو حمزة الكردي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد؛
أكرمنا الله عز وجل في الشام بخطوةٍ عظيمةٍ على طريق الجهاد والتحرير بفتح مدنٍ كانت محتلةً من النظام النصيري والإيراني والروسي فأدخلنا إليها فاتحين مكبرين مهللين بفضلٍ وكرمٍ ومنٍّ منه تبارك وتعالى في أيامٍ معدوداتٍ ما كنا نتوقعها أو نحسب حسابها.
وما حصل من نصرٍ وفتحٍ وتمكينٍ من الله عز وجل على عباده المجاهدين رغم ضعفهم وتراجعهم وقلتهم لهو خير دليل على وعد النصر الإلهي الذي لا يختلف فيه اثنان، قال تعالى: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، وكثيرةٌ هي الآيات والأحاديث والشواهد الدالة على أن النصر متعلقٌ بالصبر والمصابرة وحسن التوكل على الله عز وجل وحسن الظن به تبارك وتعالى.
ومن أهم ما يبنى على هذا النصر العظيم للمحافظة عليه واستدامته وعدم كفرانه والنكوص عنه الكثير من الأمور والواجبات الشرعية التي يجب الالتزام بها، أخص منها ثلاثة أمور وهي: الحاكمية والحسبة والعدل.
الحاكمية والحسبة والعدل هذه الأمور الثلاثة أراها من أوجب الواجبات على المسلمين خاصة المجاهدين ومقدمة على ما سواها، وكثيرة هي الواجبات على من استخلفه الله للتمكين في الأرض والحفاظ على نعم الله.
1_ الحاكمية:
وهي العزم على تحكيم شرع الله عز وجل في أرضه وبين عباده دون إفراط أو تفريط أو زيادة أو نقصان، قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:58].
وقال تعالى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49].
وقال تعالى: {أَلَا لَهُ الْحُكْمُ} [الأنعام:62].
وقال تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَىٰ وَالْآخِرَةِ ۖ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:70].
وقال تعالى: {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة:213].
وقال تعالى: {وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ} [المائدة:44].
وقال تعالى: {وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ ٱلظَّلِمُونَ} [المائدة:45].
وقال تعالى: {وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} [المائدة:47].
وتطبيق الشريعة يشمل الجميع، المسؤول وغير المسؤول، الغني والفقير، القريب والبعيد، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: “أن قريشًا أهمهم شأنُ المخزوميَّةِ التي سرقت فقالوا: من يُكلِّمُ فيها رسول اللهِ صلى الله عليه وسلَّم قالوا: ومن يجترئُ عليه إلا أسامةُ بنُ زيدٍ حِبُّ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلَّم فكلَّمَه أسامةُ فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلَّم: «أتشفعُ في حدٍّ من حدودِ اللهِ»، ثم قام فخطب، فقال: «إنما هلك الذين قبلَكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهمُ الشريفُ تركوه، وإذا سرق فيهمُ الضعيفُ أقاموا عليه الحدَّ، وأيمُ اللهِ لو أن فاطمةَ بنتَ محمدٍ سرقتْ لقطعتُ يدَها» متفق عليه، وكثيرةٌ هي الآيات والأحاديث الدالة على وجوب تطبيق الشريعة وتحكيمها والاحتكام إليها وابتغاء رضوان الله في تطبيق حكمه وشرعه.
2_ الحسبة:
لغةً: الاحتساب وهو طلب الأجر في أي أمر تفعله، واصطلاحًا: هي الأمر بالمعروف إذا ظهر تَرْكُه، والنهي عن المنكر إذا ظهر فعله.
والحسبة طوق النجاة وحبل الفوز، من تعلق به نجى في الدنيا والآخرة، بل وكان سببًا لنجاة غيره من المسلمين ولرفع العقوبة عنهم في الدنيا ثم يوكلون إلى ربهم يوم القيامة فيحاسبهم على ما اقترفته أيديهم.
قال تعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ ۗ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117-116].
وقال تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41].
وقال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:120] جاء في التفسير الميسر: “أي: وما كان ينبغي للمؤمنين أن يخرجوا جميعًا لقتال عدوِّهم، كما لا يستقيم لهم أن يقعدوا جميعًا، فهلا خرج من كل فرقة جماعة تحصل بهم الكفاية والمقصود؛ وذلك ليتفقه النافرون في دين الله وما أنزل على رسوله، وينذروا قومهم بما تعلموه عند رجوعهم إليهم، لعلهم يحذرون عذاب الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه”.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بلِّغوا عنِّي ولو آيةً…» رواه البخاري، ومن هذا التبليغ التعريف بالحلال والحرام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكثيرةٌ هي الآيات والأحاديث الدالة على ذلك.
3_ العدل:
العدل أساس الملك، وقد أمرنا الله تبارك وتعالى بالعدل والقسط في كل شيء في القسمة والأكل والشرب وبين الزوجات وفي العبادات والطاعات حتى مع من نكرهه أو نعاديه، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ} [المائدة:8].
وعن أبي جحيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “آخَى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بينَ سَلمانَ وأبي الدَّرداءِ، فزارَ سَلمانُ أبا الدَّرداءِ، فرأى أُمَّ الدَّرداءِ مُتَبَذِّلَةً، فقال: ما شأنُكِ مُتَبَذِّلَةً؟! قالتْ: إنَّ أخاكَ أبا الدَّرداءِ ليس له حاجةٌ في الدُّنيا، قال: فلمَّا جاءَ أبو الدَّرداءِ، قرَّبَ إليه طعامًا، فقال: كُلْ، فإنِّي صائمٌ، قال: ما أنا بآكِلٍ حتَّى تأكُلْ، قال: فأكَلَ، فلمَّا كان اللَّيلُ، ذهَبَ أبو الدَّرداءِ ليقومَ، فقال له سَلمانُ: نَمْ؛ فنامَ، ثمَّ ذهَبَ يقومُ، فقال له: نَمْ؛ فنامَ، فلمَّا كان عِندَ الصُّبحِ، قال له سَلمانُ: قُمِ الآنَ، فقامَا فصلَّيَا، فقال: إنَّ لنَفْسِكَ عليكَ حقًّا، ولِرَبِّكَ عليكَ حقًّا، ولِضَيْفِكَ عليكَ حقًّا، وإنَّ لِأهلِكَ عليكَ حقًّا؛ فأَعْطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ، فأَتَيَا النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فذكَرَا ذلكَ، فقال له: «صَدَقَ سَلمانُ»” أخرجه الترمذي.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “فإن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة وعاقبة العدل كريمة، وقوله: “الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنـة”.
والظلم نقيض العدل وقد حذرنا منه المولى جل وعلا فقال: {وَتِلكَ القُرى أَهلَكناهُم لَمّا ظَلَموا وَجَعَلنا لِمَهلِكِهِم مَوعِدًا} [الكهف:59].
بل إن الله قد حرم الظلم على نفسه قبل أن يحرمه بين عباده كما جاء في الحديث القدسي «يا عبادي إنِّي حرَّمتُ الظُّلمَ على نفسي وجعلتُهُ بينَكم محرَّمًا فلا تَظالموا» رواه مسلم، فكيف يحل أحدنا لنفسه أو لأحد المسلمين أو الطواغيت الوقوع في الظلم أو يترك المسلمين يعانون الظلم وهذا ظلم لهم، وقد حرمه الله تبارك وتعالى على نفسه قبل عباده!!!
أخيرًا؛ قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55]، فلا تجحدوا نعم الله بكفرانها ونكرانها والانقلاب عليها، فمن رزقنا النصر في أيام قادرٌ على انتزاعه في ساعات.
ولما ناقش بنو إسرائيل موسى في العذاب والأذى بعد هروبهم من فرعون أجابهم: {قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:129]، فإياكم أن ونكث العهد والتراجع عن الوعود والأيمان يوم كنتم ضعفاء في الأرض نازحين مشردين تتخطفكم الطير ويستقوي عليكم القريب والبعيد وتنبذكم الدول والشعوب، فآواكم الله ونصركم، فأروا الله من أنفسكم خيرًا واصبروا وصابروا ورابطوا واحفظوا ما رزقكم من خيرٍ ونعمٍ وفتحٍ ونصرٍ بالثبات على دينه وتحكيم شرعه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والبعد عن الظلم والإسراع إلى فعل الخير ونشر الدين بين الناس وتحكيم شرعه في أرضه.
اللهم ثبتنا على دينك والجهاد في سبيلك، واحفظ علينا نعمة التحرير والفتح والنصر، وتمم لنا بنعمة التمكين والاستخلاف، وارزقنا الثبات على طريق الجهاد والشهادة وتحرير البلاد والعباد من الظلم والقهر والجور، وإقامة دولة العدل والقسط والأمن في الأرض، إنك على ذلك قدير وأنت أرحم الراحمين، والحمد لله رب العالمين.