الأستاذ: أبو يحيى الشامي
لم يكن مستغرباً أن يضع مؤيدو النظام المجرم في سوريا البُسطار على رؤوسهم، ولا أن يُقبِّلوه ويجعلوه رمز الجيش المجرم الذي يدعمونه ويفرحون بإنجازاته، ففي كل مجتمع هناك شريحةٌ واسعةٌ تفضِّل السّلامة وإن رافقتها الذِّلَّة والمهانة، وتؤيّد الباطل فتضع حذاءه فوقها طوعاً برفق، خشية أن يضعه رغماً بعنف، ويتكرر هذا في الزمان والمكان بسرعة نسيان الذَّاكرة الجمعيَّة.
لم أعثر على أصل كلمة بُسطار، بسبب خلاف في نسبتها إلى اللغة التركية أو الإنجليزية، لكنها تعني الحذاء العسكري ذا السَّاق الطَّويلة، الذي ثبتت صورته في ذهن النّاس، بسبب مشية النظام المنضم العسكرية، وخبطته القوية على الأرض، وعلى أجساد المقهورين من الشعوب المغلوبة، أو الشعوب التي يحكمها العسكر.
وبقدر وعي وتمسُّك أبناء أمةٍ بحريتهم وكرامتهم الإنسانية، تكون مناعتهم ومقاومتهم لحكم العسكر قويةً، فهم إن قرأوا التاريخ فقط يستطيعون معرفة حال من تهاونوا في الاحتياط من فكرة القبول أن يحكم العسكر البلاد، أو فكرة الخنوع وإن لم يرافقه قبول، وفي الغالب يكون تصرف العسكر ما ذكره الله عز وجل من قول ملكة سبأ الحكيمة بلقيس، {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل : 34]، ليس كل الملوك لكن لأن الغالبية العظمى تفعل ذلك، عم الوصف الملوك كلهم، كقول الله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)} [العلق : 6-7].
لم تستمر الدول والحضارات القائمة على الحكم العسكري طويلاً، فهي تنهار في زمنٍ قياسيٍّ، وذلك بعد موت الحكام الأقوياء، أو تنازعهم على الحكم، وإذا استمرت فإنها تخوض في سلسلةٍ من المكائد والانقلابات، وبحرٍ من الدماء، فقديماً انهارت دولة الاسكندر المقدوني فور وفاته، واقتسمها القادة العسكريون، ولم تصمد الدولة الآشورية العسكرية لفترة طويلة كدولة موحدة مستقرة، بل انتابها الضعف والاحتلال أيضاً، مع سمعتها السيئة فيما يتعلق بمعاملة الرَّعيَّة والمغلوبين.
في تاريخنا، كان لتدخل العسكر في شؤون إدارة الدولة الأثر الأكبر في انحطاطها أو انهيارها؛ حيث تتالى القادة الفرس والكرد والترك على السيطرة على مقاليد الحكم العباسي، مع الإبقاء على الخليفة كصورةٍ رمزيَّةٍ فقط، ثم اقتسم القادة العسكريون الولايات وأجزاء الولايات لتصبح دولاً ودويلاتٍ متناحرةً، لم تصمد في وجه الغزو الصليبي والغزو التتري، والتي صمدت وجمعت الأمة واستطاعت التحرير، انهارت بعد حين بسبب العسكر ذاتهم، كما حدث مع الأيوبيين بعد وفاة صلاح الدين مباشرة، وأدى ذلك إلى تسليم بيت المقدس للصليبيين بعد تحريره بنحو أربعين سنةً، ومعلومٌ كيف انقلب المماليك العسكريون على بعضهم البعض، وقتلوا بعضهم البعض من أجل حيازة السُّلطة، ثم حِيزت منهم جميعاً، وما حدث في السلطنة العثمانية من قتلٍ للخلفاء والأمراء، وفتنة الانكشارية التي كادت تطيح بالدولة.
ثم إن الاحتلال الغربي، لم يجد أفضل من العسكر ليخلفوه في السيطرة على بلداننا، وإن كانت البداية بتجارب “ديمقراطية” وتصدير نخبٍ مواليةٍ للغرب أو على الأقل منبهرةٍ بالحضارة الغربية متابعةٍ لها، إلا أن هذه الكتل السياسية الوطنية سرعان ما تتغير وتحاول الاستقلال الحقيقي والعمل على النهوض بالبلاد، مما يستدعي تدخل العسكر مؤيَّدين بالمال والدعم السياسي الغربي للانقلاب على الحكومات وفرض حالة الاستقرار الجاهل المعطل بالبسطار العسكري.
المَلكيَّاتُ والجمهوريَّات محكومةٌ بالقوَّةِ العسكريَّةِ والأمنيَّة، التي بدورها محكومةٌ بالمنظومةِ الدُّوليَّةِ، وربما تكون هناك تحركاتٌ للخلاص من هذا الواقع، فيكون الردُّ بالقوَّةِ العسكريَّة والأمنيَّةِ فوراً أو بعد حين، وهذه الثَّوراتُ العربيَّةُ أوضح دليلٍ، حيث كانت الانقلابات العسكريَّةُ الخشنةُ كما في مصر والنَّاعمةُ كما في تونس، والثَّورة المضادَّةُ من العسكر ومؤيديهم موجودةٌ في ليبيا واليمن أيضاً، وفي الشام لم يترك الحكم العسكريُّ السُّلطةَ إلا في فتراتٍ قصيرةٍ جداً من تاريخها الحديث، وما قامت الثورة عام 2011 إلا ضده، ثم ابتليت بمثله فيها وبين أبنائها، فدخلت في الدوامة التي حاولت الخروج منها بدايةً.
إن أهم صفات الحكم العسكريِّ التَّجبُّرُ على العباد والخوفُ منهم في آنٍ معاً، فيعاملهم بالعَسفِ والجور وهضم الحقوق وتمزيق الصَّفِّ والتَّجهيلِ والتَّضليلِ، ويتعامل مع عدوهم بالموادعة والمودة والاستعانة، أو التّبعيّة المطلقة ظاهرةً كانت أو مقنَّعةً، وبدلاً من أن يكون العسكر أداةً للتحرير وحمايةِ الناس، يتحولون إلى أداةٍ للاحتلال والقمع، ويوظِّفون من المجتمع لهذا الغرض أدواتٍ كثيرةً.
إن المثال الأنصع عن نظام الحكم ما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الرّاشدين، حيث لم يكن للعسكر من إدارة الدولة شيء، إلا أنهم أداةُ التّحرير والفتح والدّفاع عن الإسلام والمسلمين، وليس للقادة العسكريين مهما علا شأنهم إلا قيادة الجند بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ثم الخليفة لتأدية المهمة المطلوبة منهم، ويحاسب القائد العسكري على تقصيره ومخالفاته، ويُعزل إذا كان في عزله مصلحةٌ، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما عزل خالد بن الوليد رضي الله عنه لأسباب معتبرة رآها، فلم يعترض خالدٌ ولم ينقلب، بل سمع وأطاع، رغم بلائه العظيم في حرب المرتدين وكسر الفرس والروم.
هذا، وما حذا حذوه في أي مكانٍ، سببُ تنشيط طاقات الأمم ومنع الاستبداد فيها ومحاسبة الفاسدين، والسَّماح للعمل المؤسَّساتيّ بالمُضيِّ في اتجاه أهدافٍ عامَّةٍ.
قال عبد الرحمن الكواكبي في مصارع الاستبداد: “ومن الأمور المقرَّرة طبيعةً وتاريخاً، أنَّه؛ ما من حكومةٍ عادلةٍ تأمن المسؤولية والمؤاخذة بسبب غفلة الأمّة أو التَّمكُّن من إغفالها، إلا وتُسارع إلى التَّلبُّس بصفة الاستبداد، وبعد أنْ تتمكَّن فيه لا تتركه، وفي خدمتها إحدى الوسيلتين العظيمتين: جهالة الأمَّة، والجنود المنظَّمة. وهما أكبر مصائب الأمم وأهمّ معائب الإنسانية، وقد تخلَّصت الأمم المتمدُّنة -نوعاً ما- من الجهالة، ولكنْ؛ بُليت بشِدَّة الجندية الجبرية العمومية؛ تلك الشّدة التي جعلتها أشقى حياةً من الأمم الجاهلة، وألصق عاراً بالإنسانية من أقبح أشكال الاستبداد، حتَّى ربَّما يصحّ أن يقال: إنَّ مخترع هذه الجندية إذا كان هو الشيطان؛ فقد انتقم من آدم في أولاده أعظم ما يمكنه أنْ ينتقم! نعم؛ إذا ما دامت هذه الجُنديَّة التي مضى عليها نحو قرنَيْن إلى قرن آخر أيضاً تنهك تجلُّد الأمم، وتجعلها تسقط دفعةً واحدةً”.
وقال في ذات الكتاب: “وأمّا الجُنديَّة فتُفسد أخلاق الأمّة؛ حيثُ تُعلِّمها الشراسة والطاعة العمياء والاتِّكال، وتُميت النشاط وفكرة الاستقلال، وتُكلِّف الأمة الإنفاق الذي لا يطاق؛ وكُلُّ ذلك منصرفٌ لتأييد الاستبداد المشؤوم: استبداد الحكومات القائدة لتلك القوَّة من جهةٍ، واستبداد الأمم بعضها على بعض من جهةٍ أخرى”.
وللمفارقةِ، فإن البُسطار الذي يضغط على الناس أو يسحقهم، تُعرَّض للضَّغط أو السَّحق مثلهم، فهو منهم أساساً، أو من صِغار الظَّلَمَة الأذلاء المقهورين يُذِلُّ ويقهر غيره عندما يكبر حجمه ويتمكن، نعم إن فرعون يكمن في كل نفسٍ، ويكبر إذا وجد مجالاً وعوناً وينسى أو يتناسى، فيمارس من الظلم ما وقع عليه من غيره وزيادةً، ويبرر لنفسه مثلما كان يبرر غيره وزيادةً.
فِرعَونُ يَكمُنُ في النُّفوسِ وقلَّما
جعلتهُ نفسٌ خاسئاً تحتَ الحِصار
في بداية الثَّورةِ السُّوريَّة كانت المجموعاتُ الصَّغيرةُ ذاتيَّةَ الحركةِ والدَّعم تُبلي حسناً وتقارع النِّظام المجرم ببسالةٍ، ثم دخلت التنظيمات وأُسَّست الفصائل بدعم خارجيِّ غيرِ مضمونٍ، فأدت الكثير من العوامل ومن أهمها الفكر المأزوم إلى فسادٍ مستطيرٍ جعل تفرُّقَ الفصائلِ الفاسدةِ نقمةً واجتماعَها على فسادها نقمةً أكبر، ولم تنجح المبادرات الشعبية مهما أخلصت وألحَّت وقدَّمت من تنازلاتٍ وتضحياتٍ في توحيد الفصائل على الصلاح والخير؛ لأنها استمرت بالانطلاق من فكرةٍ خاطئةٍ، وهي قيادة العسكر للبلد أو التَّدخل في إدارة مؤسساته، مما جعل الفساد والتسلط والجهل المركب يعيد ويكرر نفسه، ولا مخرج إلا بتولي كل جهةٍ أو شخصٍ المهام التي تصلح له.
يجب أن يوضع البُسطار في مكانه الصَّحيح، وألا يرتفع فوق الأرض إلا بما يحقق المصلحة العامَّة منه فقط، ولا يمكن ذلك إلا بصحوةٍ شعبيَّةٍ ونضالٍ مجتمعيٍّ مستمرٍ، لحصر السُّلطةِ في يد النُّخبِ ذاتِ الكفاءةِ والأمانة، والاستمرار في حراسة هذا المكتسب إن تحقق، فسرقته من الذين يمتلكون القوَّة التي مصدرها الداخل أو الخارج سهلٌ، وستجد الكثير من ضعاف الأنفس، والكثير من الانتهازيين يسارعون إلى البسطار لوضعه على رؤوسهم، ويُسعد المستبدَّ ذلك، فالاستبداد والفرديَّة أسهل من الشورى، والظلم أسهل من العدل، ولا ينظر المستبد إلى الخير الناتج عن الشورى والعدل بعين الرغبة أبداً.
قال الكاتب والقاضي الفرنسي إيتان دي لابواسيه: “كيف أمكن هذا العدد من الناس، من البلدان، من المدن، من الأمم أن يحتملوا أحياناً طاغيةً واحداً لا يملك من السلطان إلا ما أعطوه؛ ولا من القدرة على الأذى إلا بقدر احتمالهم الأذى منه؛ ولا كان يستطيع إنزال الشر بهم لولا إيثارهم الصبر عليه بدل مواجهته”.
وبينما يؤدي الخنوع إلى نمروذ أو فرعون أو نيرون يتكرر ويحرق البلد وأهله بتبريرٍ وذريعةٍ أو بغيرها، يؤدي النهوض بالأمم والشعوب إلى سقوط الطغاة بعسكرهم وبساطيرهم إلى مكانهم الصحيح في خدمة الدفاع أو التحرير، إن قبلوا، وإلى مزابل التاريخ إن لم يقبلوا.
إنها حياةٌ بغيضةٌ أن يكون الناس فيها على قسمين؛ العدد الأقلُّ فوق البُسطار، والعدد الأكبر تحت البُسطار، وتنغلق العقول عند حدودِ هذه المعادلة التَّافهةِ، فإذا قامت الثورة أعادت نفس المعادلة بشخصيّاتٍ جديدةٍ، ثم لا يكون الخروج من الدوامة إلا بتفتح العقول والقلوب ورفض الذل والهوان، سواء كان من عدوٍ أو عدوٍ أو عدوٍ، وكلُّ ظالمٍ متجبرٍ عدو.
لتحميل نسخة من مجلة بلاغ BDF اضغط هنا