الشيخ: أبو حمزة الكردي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
لطالما كانت المسؤولية المناطة بتكاليف الحياة مكان اهتمام لأولي الهمم؛ يدفعهم للأمام بالأجر أو يؤخرهم للخلف بالخوف، لذلك كانوا يحسبون ألف حساب قبل أن يتكلفوا القيام بأي عمل لما يترتب على التكليف من واجبات يجب أداؤها، وكلما كانت المهمة أصعب وأخطر، كان المترتب عليها من منفعة أو مضرة أعظم وأكبر، فعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»، قال العلماء: الراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما قام عليه وهو ما تحت نظره، ففيه أن كل من كان تحت نظره شيء فهو مطالب بالعدل فيه والقيام بمصالحه في دينه ودنياه ومتعلقاته.
أما بالنسبة لمن يرعونهم فعليهم حق السؤال والتفقد ومعرفة أحوالهم وتلبية متطلباتهم والقيام على شؤونهم، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ، أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللهِ، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا»، وفي اختصاص التقوى بخاصة نفسه والخير بمن معه من المسلمين إشارة إلى أن عليه أن يشد على نفسه فيما يأتي ويذر، وأن يسهل على من معه من المسلمين ويرفق بهم، كما ورد في حديث أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «يَسِّرُوا وَلاَ تعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلاَ تُنَفِّرُوا».
ومن أعظم مهام القادة في مسيرة جهادهم وما كلفوا به، القيام على تفقد أحوال المجاهدين، الذين باعوا أرواحهم رخيصة في سبيل الله تبارك وتعالى، في أعظم عبادة وتجارة ومهمة يخوضونها في حياتهم، لذا فهم بحاجة لرعاية وعناية وتفقد على نحو خاصٍّ وعالٍ من القدر والمسؤولية يوازي ويكافئ عظم المهمة التي خرجوا إليها. فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ، كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْخَاشِعِ الرَّاكِعِ السَّاجِدِ».
ومن أدل المواقف على عظم مسؤولية تفقد المجاهدين ما أخبرنا الله عنه في قصة تفقد نبي الله سليمان لجنده عليه السلام حتى تفقد الهدهد، قال تعالى: (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ)، قال الطاهر بن عاشور: “صيغة التفعّل تدل على التكلّف، والتكلّف: الطلب. واشتقاق تفقد من الفقد يقتضي أن تفقد بمعنى طلب الفقد. ولكنهم توسعوا فيه فأطلقوه على طلب معرفة سبب الفقد، أي معرفة ما أحدثه الفقد في شيء، فالتفقد: البحث عن الفقد ليعرف بذلك أن الشيء لم ينقص، وكان الطير من جملة الجند لأن كثيرا من الطير صالح للانتفاع به في أمور الجند فمنه الحمام الزاجل، ومنه الهدهد أيضا لمعرفة الماء، ومنه البزاة والصقور لصيد الملك وجنده ولجلب الطعام للجند من الصيد إذا حل الجند في القفار أو نفد الزاد.
وللطير جنود يقومون بشؤونها. وتفقد الجند من شعار الملك والأمراء وهو من مقاصد حشر الجنود وتسييرها. والمعنى: تفقد الطير في جملة ما تفقده، فقال لمن يلُون أمر الطير: ما لي لا أرى الهدهد”.
* من صور تفقد حال المجاهدين:
– تفقد صفوفهم وصنوفهم قبل المعركة لمعرفة مدى جاهزيتهم وتقسيمهم:
فقد رد النبي صلى الله عليه وسلم الصبيان يوم بدر لصغر سنهم، ومنهم زيد بن ثابت رضي الله عنه، وقَبِلَ عمير بن أبي وقاص رضي الله عنه، وقَبِلَ رافع بن خديج وسمرة بن جندب رضي الله عنهما يوم أحد، وقد كانا أبناء خمس عشرة سنة.
وكان صلى الله عليه وسلم يتفقد صفوف المسلمين قبل المعركة ليختار منهم حملة اللواء، والمشاة وقائدهم، والفرسان وقائدهم، والرماة وقائدهم، كما حصل يوم أحد على جبل الرماة.
– تفقد المجاهدين بعد المعركة:
عن أبي برزة رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي مَغْزًى لَهُ فَأَفَاءَ اللهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ لأَصْحَابِهِ: هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فُلانًا وَفُلانًا وَفُلانًا، ثُمَّ قَالَ: هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فُلانًا وَفُلانًا وَفُلانًا، ثُمَّ قَالَ: هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالُوا: لا، قَالَ: لَكِنِّي أَفْقِدُ جُلَيْبِيبًا فَاطْلُبُوهُ، فَطُلِبَ فِي الْقَتْلَى فَوَجَدُوهُ إِلَى جَنْبِ سَبْعَةٍ قَدْ قَتَلَهُمْ ثُمَّ قَتَلُوهُ، فَأَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: قَتَلَ سَبْعَةً ثُمَّ قَتَلُوهُ، هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ».
– تفقد الجرحى والمصابين والقيام على مداواتهم ومتابعة أحوالهم:
ذكر ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصاب سعدا السهم بالخندق، قال لقومه: «اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب» وكانت رفيدة امرأة من أسلم تداوي الجرحى، وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر به فيقول: «كيف أمسيت وكيف أصبحت؟» فيخبره.
– تفقد فقراء المجاهدين وأهل الحاجة وتذكير الأغنياء بحقوق الفقراء:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: “بَيْنَمَا نَحْنُ فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَةٍ لَهُ، قَالَ: فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ»، قَالَ: فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ“.
– تفقد أهالي المجاهدين ومن هم خلفهم في بيوتهم حين خرجوا للغزو:
عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللهِ فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ، فَقَدْ غَزَا».
– تفقد أهالي المجاهدين الشهداء بعد المعركة ومواساتهم:
عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم بعد استشهاد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال: «لَا تَبْكُوا عَلَى أَخِي بَعْدَ الْيَوْمِ، ادْعُوا إلِيَّ ابْنَيِ أخِي، قَالَ: فَجِيءَ بِنَا كَأَنَّا أَفْرُخٌ، فَقَالَ: ادْعُوا إِلَيَّ الْحَلاقَ، فَجِيءَ بِالْحَلاقِ فَحَلَقَ رُءُوسَنَا، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا مُحَمَّدٌ فَشَبِيهُ عَمِّنَا أَبِي طَالِبٍ، وَأَمَّا عَبْدُ اللهِ فَشَبِيهُ خَلْقِي وَخُلُقِي، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَأَشَالَهَا، فَقَالَ: اللهُمَّ اخْلُفْ جَعْفَرًا فِي أَهْلِهِ، وَبَارِكْ لِعَبْدِ اللهِ فِي صَفْقَةِ يَمِينِهِ، قَالَهَا ثَلاثَ مِرَارٍ، قَالَ: فَجَاءَتِ أمُّنَا فَذَكَرَتْ لَهُ يُتْمَنَا، وَجَعَلَتْ تُفْرِحُ لَهُ، فَقَالَ: الْعَيْلَةَ تَخَافِينَ عَلَيْهِمْ وَأَنَا وَلِيُّهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؟!».
* من فوائد تفقد حال المجاهدين:
– الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم: قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: «إِنَّا وَاللهِ قَدْ صَحِبْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، فكَانَ يَعُودُ مَرْضَانَا، وَيَتْبَعُ جَنَائِزَنَا، وَيَغْزُو مَعَنَا، وَيُوَاسِينَا بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ».
– تمني الخير للمسلمين وتذكرهم أوقات العبادات والطاعات: قال كعب بن مالك رضي الله عنه: “وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ، فَقَالَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْقَوْمِ بِتَبُوكَ: «مَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ؟» قَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَالنَّظَرُ فِي عِطْفَيْهِ، فَقَالَ لَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِئْسَ مَا قُلْتَ، وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا، فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَيْنَمَا هُوَ عَلَى ذَلِكَ رَأَى رَجُلًا مُبَيِّضًا يَزُولُ بِهِ السَّرَابُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ»، فَإِذَا هُوَ أَبُو خَيْثَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ، وَهُوَ الَّذِي تَصَدَّقَ بِصَاعِ التَّمْرِ حِينَ لَمَزَهُ الْمُنَافِقُونَ“.
– إدخال الفرح والسرور على أهالي المجاهدين وإشعارهم بعظيم بذل أبنائهم: ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لأم حارثة رضي الله عنها، حين سألته عن ابنها خيرًا فتفرح أم شرًا فتبكي، فأجابها صلى الله عليه وسلم بقوله: «يَا أُمَّ حَارِثَةَ إِنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ، وَإِنَّهُ لَفِي الْفِرْدَوْسِ الْأَعْلَى».
– تدارك الأمور وتصحيحها قبل الغزو: فلم يقبل صلى الله عليه وسلم وجود مشرك يقاتل معه بين صفوف المسلمين، فأخرجه من بين أظهرهم قائلًا له: «ارجع فلن أستعين بمشرك».
– شحذ الهمم ورفع المعنويات: بإشعار المجاهدين ومن خلفهم بأنهم ذو قيمة وأصحاب فضل وخير، وأنهم محل اهتمام وتقدير ومحبة، وأن ما هم فيه هو من أفضل الأعمال وأشرفها ألا وهو الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى.
* لا بد أن نعلم بل ونوقن حق اليقين أن الإمارة أو الولاية أو الرئاسة أو الإمامة أو ما يقوم مقامهم في أي عمل يقع على عاتق العبد المسلم إنما هو تكليفٌ قبل أن يكون تشريفًا، وأنه مسؤول عنه ومحاسب عليه ومجزيٌّ به، سواء أحسن في ذلك أم أساء، فعن معقل بن يسار رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَا مِنْ عَبْدٍ اسْتَرْعَاهُ اللهُ رَعِيَّةً، فَلَمْ يَحُطْهَا بِنَصِيحَةٍ، إِلَّا لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ» ومِن غِشها أن يهملها ويبخسها حقها ولا يتفقدها ويؤَمِّن ما تريده وتحتاجه.
وعدم تفقد المجاهدين وإهمالهم وإهمال أهلهم وذويهم وأبنائهم وهم رأس حربة هذه الأمة ودرعها المتين هو خيانة لله ورسوله والمؤمنين وهي صفة نفاق، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفات المنافقين فذكر منها: «..وإذا أؤتمن خان..».
* اللهم أدم علينا نعمة الجهاد في سبيلك، وارزقنا شرف خدمة مجاهديك ورعايتهم وتفقد أحوالهم والاطمئنان عليهم وعلى أهلهم وأطفالهم، وأن نخلفهم في أهلهم بخير في حياتهم وبعد استشهادهم، وأن نكون خير خلف لخير سلف، إنك ولي ذلك والقدر عليه، والحمد لله رب العالمين
لقراءة بقية مقالات مجلة بلاغ اضغط هنا
لتحميل نسخة من المجلة اضغط هنا