الأستاذ: حسين أبو عمر
أبو خندف رجل يعيش في أرض مسبعة، امتلك يوما عددا من الأغنام، فقرر إطلاق مشروع لتربية الأغنام.
بدأ أبو خندف العمل في مشروعه؛ فبنى بيتا واسعا وجميلا للأغنام، وزود البيت بالكثير من وسائل الرفاهية..
جلب أبو خندف كميات كبيرة من الأعلاف تزيد عن حاجة الماشية، وعمل على استجرار المياه بكميات وافرة..
جلب الأدوية ووظف طبيبا بيطريا لمراقبة الأغنام ومعالجتها، واستمر أبو خندف يطور في المشروع..
المشكلة الوحيدة التي واجهت أبا خندف في “مشروعه” أن الحيوانات المفترسة الكثيرة المتواجدة في المكان -ذكرنا في البداية أن أبا خندف يعيش في أرض مسبعة- كانت تهجم على الأغنام -“المشروع”- وتفتك بها.
كانت أدوات أبي خندف للدفاع عن “مشروعه” أمام الحيوانات المفترسة ضعيفة جدا، لا تمكنه من التعامل الكافي مع الحيوانات المفترسة. أمام هذا الخطر المهدد لحياة “المشروع” تعامل أبو خندف بحيلة “الإنكار”؛ بدلا من السعي إلى تحصيل الوسائل التي تمكنه من الدفاع عن مشروعه، انشغل أبو خندف بتعبيد الطريق الواصل إلى مكان المشروع، وتوفير الكهرباء للمشروع، وزراعة الأراضي المجاورة.. انشغل بهذه الأشياء عن حماية “مشروعه”!
ومَنْ رَعَى غَنَماً في أَرْضِ مَسْبَعَةٍ
ونامَ عَنْها تَوَلَّى رَعْيَها الأَسَدُ
أبو خندف يتصور نفسه إنسانا ناجحا وصاحب مشروع، لكن الحقيقة، وسيقول عنه الجميع: إنه ليس صاحب مشاريع، ولا حتى رجلا عاقلا، إذ إنه عارض مسلَّمة عقلية، وهي ترتيب الاحتياجات..
* ترتيب الاحتياجات عند الإنسان الفرد والجماعة:
يقول العلماء الباحثون في علم النفس التطوري (بالنسبة للفرد وبالنسبة للجماعة): إن الاحتياجات والوظائف عند الإنسان الفرد وعند الجماعة، يمكن تقسيمها إلى ثلاث وظائف أساسية على شكل هرم:
أولا: قاعدة الهرم: وظائف الوجود/ البقاء: وهذه تشمل كل ما يحتاجه الفرد/ الجماعة من أجل المحافظة على البقاء: من غذاء وماء ودواء وأمان وغيرها من الاحتياجات التي يتوقف عليها بقاء الفرد/ الجماعة.
ثانيا: منتصف الهرم: وظائف الاستقرار: وهذه تشمل الأشياء التي يحتاجها الفرد/ الجماعة من أجل الاستقرار؛ وتشمل: المكان المستقر، الاستقرار الوظيفي، وتوفير الخدمات من بنى تحتية وكهرباء وصحة، وغيرها من الخدمات..
ثالثا: قمة الهرم: وظائف التنمية: وهذه تشمل الأشياء التي يفعلها الفرد/ الجماعة من أجل التطوير والحصول على الرفاهية…
مكان أي عامل من العوامل في الهرم يخضع للظروف ودرجة الحاجة إليه وليس ثابتا دائما؛ فالسيارة مثلا هي عامل بقاء إذا كان مالكها يتواجد في منطقة بعيدة عن الطعام والماء، ولا يمكنه الحصول عليهما إلا بوجود السيارة، أما في الحالات الطبيعية فالسيارة عامل استقرار، وربما رفاهية.
التدفئة هي عامل بقاء في بعض الأماكن أو لبعض المشاريع التي تحتاج درجة حرارة معينة، أما بالعموم فهي ليست عامل بقاء.
وهكذا مع سائر العوامل؛ فأهمية العامل تكمن في درجة الحاجة إليه.
كما أن مكان العامل في الهرم لا يخضع لدرجة تطوره؛ فالاتصالات المتطورة إذا توقف عليها بقاء الفرد/ الجماعة فهي عامل بقاء، أما في الحالات العادية فهي من وظائف الاستقرار، وربما الرفاهية..
يبدأ ترتيب الأولويات عند العقلاء من قاعدة الهرم إلى الأعلى؛ فالعاقل لا ينشغل بوظائف الاستقرار أو التنمية إذا لم يحقق وظائف البقاء، لا يفعل كما فعل صاحب “المشروع” أبو خندف؛ كان مشغولا بتعبيد الطرق، وزراعة الأراضي…، بينما كانت الحيوانات المفترسة تفتك بالماشية!!.
يمكن للفرد/ للجماعة أن ينشغل بعوامل الاستقرار أو الرفاهية إذا كان القيام بهذه العوامل يحقق للفرد/ للجماعة البقاء؛ كما يفعل الكثير من السياسيين أو الجماعات التي تقدم خدمات من أجل أن يتعاطف معها الناس ويدافعوا عنها.
أما الانشغال بعوامل الاستقرار ليس فقط عن عوامل البقاء، بل بطريقة يكون الاشتغال بها بحد ذاته عاملا من عوامل الزوال، كأن يقوم الفرد/ الجماعة بأعمال تجعل الناس يكرهونه وينتظرون زواله، وربما يقومون بأعمال تعجل زواله، فهذه الحال تتخطى حال أبي خندف بمراحل؛ فأبو خندف لم ينشغل بالأشياء التي تسرع بزوال مشروعه، إنما انشغل بأشياء ثانوية عن الاحتياجات الأساسية، التي يحتاجها المشروع كي يحافظ على بقائه.
حلم الاستقرار، والهوى، وحب السلطة، والأمل الزائف، والأماني والرغبات الخداعة، هي التي تدفع الناس للقفز على المراحل، والانشغال بوظائف الاستقرار عن وظائف البقاء.
استعمل النبي -صلى الله عليه وسلم- كل الوسائل للمحافظة على البقاء: من الدعوة السرية، وهجرة الصحابة إلى الحبشة، والبحث عن النصير، وغيرها من الوسائل..
لم ينتقل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى وظائف الاستقرار إلا بعد أن أسلم عدد من الأنصار، وبايعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأزواجهم وأبناءهم؛ عندها فقط انتقل إلى وظائف الاستقرار.