بَوتَقَةُ الاستِهدَافِ -كتابات فكرية – مقالات مجلة بلاغ العدد ٦٥ – ربيع الأول ١٤٤٦ هـ

الأستاذ: أبو يحيى الشامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

يطالع المهتمون بشأن معركة الأمة الوجودية أبحاثاً لمراكزَ معروفةٍ متخصصةٍ بدراسة الإسلام وكيفِ القضاء عليه، مثل مركز راند الشهير، ومراكز البحث ضمن الناتو والإنتربول واستخبارات الدول والمنظمات الدولية، فيجدون الكثير من الأبحاث الموزَّعة على مواضيعَ مختلفةٍ، تبدأ بمساعي التضليل والتدجين، ولا تنتهي بطرق التشتيت والعزل والاستهداف.

ويجد المتابعُ الموضوعي الصادق مع نفسه أن في المسلمين تياراتٍ تساعد في تطبيق توصيات مراكز الأبحاث هذه، وتخدم الأجهزة المختصة بتنفيذ هذه الخطط، منها تياراتٌ تعي ما تفعل وتقصده وتُصِرُّ عليه، ومع ذلك تنتسب إلى الإسلام!، وتياراتٌ لا تعي وربما يصعب أن تعي دورها في تطبيق هذه التوصيات وخدمة هذه الخطط، لكنها تقوم به بتفانٍ وإخلاصٍ وفخارٍ!.

 

البَوتَقَةُ وعاءٌ يُجمع فيه المعدن أو الفِلِزُّ (خليطٌ معدنيٌّ خامٌ) لصهره، حيث تُسلَّط عليها حرارةٌ مركزةٌ، تذيب المعادن بدرجاتٍ متفاوتةٍ، واخترت اسم البوتقة لأن الاستهداف الذي أقصد في هذا المقال يكون بعد الفرز والعزل والتركيز على الهدف، ثم استهدافه.

“قُتل المدعوُّ فلانٌ الفلاني الذي ينتمي إلى تنظيم كذا…..”، هذه في الغالب تكون عبارةُ الخبرِ المتداولِ في وسائل الإعلام ومواقعِ الأخبار وبين أبناء الأمة الذي يهتمون للأخبار، ويمضي الخبر بشكل عامٍّ عابرٍ، ويرافقه بنسبةٍ أقل بكثيرٍ رسائلُ تعزيةٍ وبيانات نعيٍ ورثاءٍ، ثم تَخفُتُ لتظهر من جديدٍ مع مستهدفٍ آخر، فلماذا لا يثير المستهدَفون موجةَ غضبٍ في الأمة طالما أن الذي يستهدفهم عدو؟!

بالتدقيق في مسار النظام الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة في حربها على الجماعات والتنظيمات الإسلامية “الراديكالية” = (الهادفة إلى التغيير الجذري)، نجد أنهم يعمَدون إلى عزلها عن محيطها المسلم إن لم تكن منعزلة أساساً، ولا يبدؤون باستهدافها إلا بعد أن تعطى فرصتها في الاصطدام مع المحيط المسلم لينفر منها ويُعرِض عنها، كما حدث مع تنظيم جبهة النصرة الذي انتفض أهل الشام في ثاني عامٍ من ثورتهم ليرفضوا تصنيفه والاستفراد به، فلم يقصر في ضرب الفصائل والتضييق على الأهالي عندما قدر، فأعطت هذه الممارسات الفرصة لعزله، واستعمال العصا (الاستهداف) مع القادة الثابتين فيه، والجزرة (الموادعة والاستعمال) مع المتحولين البراغماتيين.

دوامةٌ مستمرة تبدأ بإنشاء الجماعة أو التنظيم أو تشظيه عن تنظيم آخر، ثم السماح له بمساحةٍ زمانيةٍ ومكانيةٍ -على حاله ومقاله- يسيطر فيها فيصطدم مع محيطه المسلم، أو يُجر إلى الصدام باستعمال التضييق الممنهج على الجميع وتسليط الجهلاء والعملاء داخل صفوف التنظيم ليفسدوا في الأرض، ثم يكون عزل التنظيم عن محيطه، وفرز قادته، ثم استهداف “الراديكاليين” واستعمال “البراغماتيين”، ثم تنشأ جماعةٌ أو يتشظى تنظيمٌ….. وهكذا تستمر الدوامة، والسبب الأبرز والأهم في هذا هو قدرة العدو على عزل الجماعة أو التنظيم عن محيطه المسلم، وفي الغالب يكون أساسُ الخطأ هو وجودُ هكذا جماعةٍ أو تنظيمٍ بهذه الطريقة المكررة التي تكرس التميز والانعزال.

لا يوجد سلطةٌ أو قوةٌ مسلمةٌ تعترض على استهداف الشيخِ فلانٍ أو المجاهدِ فلانٍ من قبل العدو، ولا شعبٌ مسلمٌ يثور بسبب ذلك، طالما أن الشيخ والمجاهد منعزلان عن الأمة لا يشاركان في تطلعاتها وتعاملاتها اليومية، واهتماماتها الكلية والجزئية، وعلى العكس من ذلك عندما يكون المستهدف مدنياً أو مجاهداً من فصائل أخرى لها شعبيةٌ وتفاعلٌ مع الأمة تثور ضَجَّةٌ تتناسب مع الحدث وأهمية المستهدف، تذكرون كيف اختلف التفاعل، فازدادت المشاركاتُ في الحديث عن الاستهداف، وحِدَّةُ رفض هذه الضربات الجوية، عندما قتل مدنيٌّ في قورقنيا شمال إدلب بغارة الطيران المسيَّر الأمريكي، حتى في الدول الغربية حدثت ضَجَّةٌ بسبب ذلك.

بعد كل هذه السنوات من المواجهة المنفردة والجماعية، بات واضحاً للجميع أن المنفرد المنعزل يصبح عرضةً للاستهداف، ومن الطبيعي ألا يثير تعاطفاً أو استياءً طالما أنه غير معروف من قبل الشريحة الواسعة من أبناء الأمة المجاهدين والمرابطين وبالتالي الحاضنة القريبة والبعيدة، ولا نتحدث هنا عن المجهول في الأرض المعروف في السماء، فهذا مقالٌ يهدف إلى تسليط الضوء على مشكلةٍ لا بد من إيجاد حلولٍ لها، وليس موعظةً عابرةً في جنازةِ ساعةٍ.

 

“إنَّما يأكلُ الذئبُ منَ الغنمِ القاصيةَ” حديثٌ صحيحٌ قاله النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه أبو داوود والنسائي وأحمد عن أبي الدرداء رضي الله عنه، والجماعة هي الأمة ينوب عنها شعبٌ من شعوبها في مصرٍ من الأمصار، يتعاونون ويتكافلون ويتناصحون ويتناصرون ويتواصلون مع غيرهم من شعوب الأمة حتى يأذن الله بالجماعة الكبرى، فإن وَلِي هذا الشعبَ طاغيةٌ تنحصر الفاعلية فيمن يناوِئُهُ ويسعى في تحرير هذا الجزء من الأمة، ولا ينحصر الخير والتأثير في حزبٍ أو تنظيمٍ، بل إن التفكير بالمنهجية الحزبية والتنظيمية الضيقة أصل الخلافات والنزاعات والفشل، ويتسلى العدو في الاستفراد بمن ينفرد، يتخذه غرضاً لعملائه وطائراته.

فإذا راجعتم تاريخ الضربات غير الاستثنائية، تجدون أكثرها كانت في الأشهرِ الأخيرة من ولايةِ الرؤساء الأمريكيين، وإن كان الهدف تحت المراقبة مدة قبل ذلك، لأن الغاية منها ليست عسكريةً أو أمنيةً، ولا يشكل المستهدف بها خطراً على الغرب وأمريكا و”الأمن العالمي”، بل ربما يكون ملاحقاً محدود التأثير حتى في محيطه الصغير، لكن قتلَهُ عملٌ استعراضيٌّ دعائيٌّ في سباق الانتخابات!.

فإذا كانت حالةُ الانعزالِ الأمنيِّ مفروضةً على المستهدف، بحكم التصنيفِ والطلبِ، ولا يذهب هذا عنه إلا بالتصفيةِ الجسديةِ بالقتل، أو التصفيةِ الفكريةِ بالفتنة والاستعمال، فإن الحلول المقترحة لا تركز على العدو وقدراته، بل على الأمةِ وقدراتها التي تجعل العدوَّ يفكرُ ألفَ مرةٍ قبل استهداف شخصٍ معروفٍ له شعبيةٌ وتأثيرٌ في مكان جهاده، وإن كان العمل على هذه الشعبية يتطلب ظهوراً والظهور يضر بالوضع الأمني، ما يشكل معضلةً تتطلب زمناً طويلاً أو مستحيلة الحلِّ في بعض الحالات، فالمطلوب ليس أقلَّ من الكفِّ عن إنتاجِ هذه الحالةِ في تنظيماتٍ وأشخاصٍ آخرين.

 هذا وإن الجدال حول البدء بقتال العدو القريب أو البعيد محسومٌ بآيةٍ من القرآن الكريم، لا يجهلها طالبُ علمٍ، نسأل الله أن يُعلمنا وأن يُصلح شأننا.

Exit mobile version