الشيخ: المنصور بالله الحلبي
قال تعالى: {وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكۡتُمُونَهُۥ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمۡ وَٱشۡتَرَوۡاْ بِهِۦ ثَمَنٗا قَلِيلٗاۖ فَبِئۡسَ مَا يَشۡتَرُونَ} [آل عمران:].
يا الله ما أشد هذا العهد، وما أصعب ذلك الميثاق، وما أقسى تلك المهمة، تبيين دين الله كما هو بلا تبديل ولا تحريف ولو عضّت السيوف صاحبها، ولو أطبقت عليه السماء، فالعلماء هم الموقعون عن رب العالمين.
عن رب العالمين!!
وكيف لعاقل أن يتخيل عظمة هذه المهمة..
ووالله لو كان هذا التوقيع والتبليغ عن أحد البشر المسؤولين لخاف الإنسان التقصير فكيف تكون عن رب البشر!
ومن المعلوم أن طريق الحق محفوفٌ بالمخاطر، ومعالمه البلاء والامتحان، وهو أشد وأقسى على العالم وحامل الهدى..
وإن شياطين الإنس والجن لن يتركوا صاحب العلم حتى يَظهر صدقُه من كذبه، وأمانتُه من خيانته، وحتى يستبين موقفُه الحقيقي، فإما أن يقدم أمر الله ويظهر دينه كما أمِر؛ وعندها الفوز في الدنيا والآخرة، ولن تخلو حياته من بلاءاتٍ ومحن، وإما أن يقدم السلامة والعافية والعيش الرغيد ومطاوعة الحكام في تبديل وتحريف الدين؛ وعندها فالشقاء الذي لا شقاء بعده، وإن ظهر له شيءٌ من العافية لكنها عافيةٌ مكذوبةٌ، وبئس ذلك النعيم الذي آخره إلى النار..
فلينظر العالِم موطئ قدميه، وليبصر مكانته ومسؤوليته، فإما أن يؤديها بحقٍ وقوة، وإلا فليتركها لأهلها ويرجع للوراء، وحذار حذار أن يختار الدنيا على الآخرة، والخيانة على الأمانة، ومجاراة الحكام والسلاطين وأهواء النفوس التي لا تنتهي..
ويقرأ المرء في سورة الزمر: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ ۚ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:60]، فيقف مذهولًا حائرًا من هول هذه الآية، سُوّدت وجوههم أمام الله وأمام الناس، لأنهم حاولوا تبييضها في الدنيا على حساب دين الله فكان الجزاء من جنس العمل والقادم أدهى وأمر.
وإني لأعجب من حال هذا الضعيف كيف تجرأ على هذه الفعلة الشنيعة والطريقة القبيحة..
ألم يتذكر حقارة الدنيا ووضاعتها، وعظمة الآخرة وقيمتها..
ألم يعلم أن الله هو المعز المذل والخافض الرافع وأن قلوب العباد بيده يقلبها كيف يشاء..
وكل عرضٍ يبيع لأجله صاحب العلم دينه فهو قليل، وكل مقابل فهو ضئيل ولو كانت الدنيا بأسرها، فكيف لو كان المقابل لعاعةً من الدنيا ما تلبث أن تزول!!
ولأن العالم قدوةٌ لغيره فإن فعله محسوب عليه، والصغيرة في حقه تكون كبيرة، وهو موضع نظر الناس، فإن فعل خيرًا واقتدى به الناس نال خيرًا عظيمًا، وإن عمل شرًا وتبعه الناس ناله إثمٌ كبيرٌ، كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن سنّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء».
ولهذا فلو أفتى العالم بحل الحرام فكل من يرتكبه فهو في ميزان هذا المفتي، ولو برر للحكام والسلاطين أفعالهم وانحرافهم فذلك كله في رقبته، وعندها فليحمل إثم كل من وقع في المحظور وتجاوز الحدود، قال الله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ۖوَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت:13].
وإنّ طلب الدنيا بغير المشروع أمرٌ مقيتٌ وفعلٌ مذمومٌ، وأشد من ذلك طلبها بطريق الدين وزعم الاستقامة، ولذلك قال بشر الحافي رحمه الله: “لَأنْ أطلب الدنيا بطبل ومزمار أحبَّ إليَّ من أن أطلبها بالعبادة”.
وسنة الله في علماء السوء أن يظهر كذبهم أمام الجميع وإن طال الزمان، وأن ينبذهم الناس وينفروا منهم ويبتعدوا عنهم، حتى تأتي اللحظة التي يضحي بها السلطان بهذا العالم، ويمكن أن يسجنه أو حتى يقتله، ومن أعان ظالمًا سُلّط عليه والتاريخ مليء بالأمثلة!!
ولو أنَّ أَهْلَ العِلْمِ صَانُوهُ صَانَهُمْ *** ولو عَظَّمُوهُ فـي النُّفُوسِ لَعُظِّمَا
ولكِنْ أَهَانُوهُ فَهَانَ وَدَنَّسُوا *** مُحَيَّاهُ بِالأطْمَاعِ حَتَّى تَجَهَّمَا
وأخيرًا؛ فإن لله رجالًا لا يخافون فيه لومة لائم، وهم ثابتون على دين الله ولو كلفهم كل ما يملكون، وما قصة الإمام أحمد بن حنبل عنا ببعيد..
فكلٌ يعمل على شاكلته وربك أعلم بمن هو أهدى سبيلا..
هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٧١ – شوال ١٤٤٦ هـ
لتحميل نسختك من مجلة بلاغ اضغط هنا أو قم بزيارة قناتنا على تطبيق التليجرام بالضغط هنا