الأستاذ: حسين أبو عمر
كان -وما زال- هذا الموضوع محلَّ بحثٍ وجدلٍ طويلٍ بين السَّاعين للإصلاح الدِّيني والأخلاقي أو حتى السِّياسي، والباحثين في علم الاجتماع: من الأول (السبب المؤثر)، العامَّة أم الملوك؟.. ومن النتيجة؟.. وما هي أقوال الصحابة والعلماء في ذلك؟.. ومن أين يبدأ من أراد التغيير والإصلاح؟.. وما هي طريقة الأنبياء والمصلحين الناجحين؟…
بداية، لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّه، لا المقولة “النَّاس على دين ملوكهم” نصٌ صادرٌ عن معصوم فينبغي لنا الوقوف عنده وألَّا نتعداه، ولا الحديث “كيفما تكونوا يُولَّى عليكم” تصحُّ نسبته إلى النَّبي -صلى الله عليه وسلم- فيجب علينا التصديق به والتسليم له؛ بل هو حديث ضعيف، ضعَّفه عدد من الأئمة؛ منهم ابن حجر العسقلاني، والشوكاني، والألباني…
وهذا الحديث، بالرغم من ضعفه، ومخالفته لأقوالٍ صحيحةٍ ثابتةٍ نسبتها إلى بعض الخلفاء الرَّاشدين، ومن مخالفته للواقع؛ كما يقول الشيخ الألباني -رحمه الله-، إِلاَّ أنَّه تمَّ -وما زال يتمُّ- توظيفه بطريقة سيئة في إخضاع الأمَّة للحكام الظَّالمين المستبدِّين، النَّاهبين لخيراتها، المضيِّعين لمقدراتها؛ وأسوأ ما في هذا التوظيف “جعل الضحيَّة المجنيِّ عليه هو السبب!!”.
* أقوال الصَّحابة والعلماء:
روى البخاريُّ في صحيحه أنَّ امرأةً من أحْمَسَ سألت أبا بكر الصِّديق -رضي الله عنه-: “ما بَقَاؤُنَا علَى هذا الأمْرِ الصَّالِحِ الذي جَاءَ اللَّهُ به بَعْدَ الجَاهِلِيَّةِ؟ قالَ: بَقَاؤُكُمْ عليه ما اسْتَقَامَتْ بكُمْ أئِمَّتُكُمْ، قالَتْ: وما الأئِمَّةُ؟ قالَ: أَمَا كانَ لِقَوْمِكِ رُؤُوسٌ وأَشْرَافٌ يَأْمُرُونَهُمْ فيُطِيعُونَهُمْ؟ قالَتْ: بَلَى، قالَ: فَهُمْ أُولَئِكِ علَى النَّاسِ”.
سنرجئ التعليق على هذا الكلام الملهَم من الصِّديق -رضي الله عنه- قليلاً، وننتقل إلى نقل آخر؛ فقد أورد ابن كثير في “البداية والنهاية” أنَّ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لما بعث له سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- غنائم الفرس؛ قال: “لما نظر إلى ذلك قال: إنَّ قوماً أدوا هذا لأمناء. فقال له علي بن أبي طالب: إنَّك عففت فعفَّت رعيَّتك، ولو رتعت لرتعت”.
فهذا علي -رضي الله عنه- يقول: إنَّ الناس يقلِّدون أمراءهم؛ فإنْ كان الأمراء أهلَ عفَّة كانت الرعيَّة كذلك، وإنْ كانت الأمراء ترتع في الحرام فإنَّ الرعيَّة ستفعل نفس الشيء.
وقد ورد عن عمر -رضي الله عنه- في غيرما موضع أنَّه كان يقول: “الرعيَّة ترتع إذا رتع الإمام”، وأنَّه كان يوصي ولاته وأهله: “إذا رآكم النَّاس ترتعون يرتعون”…
وهذا الفهم لهذه السنَّة الاجتماعيِّة كان متقرراً عند عدد من العلماء؛ قال ابن كثير في “البداية والنهاية”:
“قالوا: وكانت همَّة “الوليد” في البناء؛ وكان النَّاس كذلك، يلقى الرَّجل الرَّجل فيقول: ماذا بنيت؟.. ماذا عمّرت؟..
وكانت همَّة أخيه “سليمان” في النِّساء؛ وكان النَّاس كذلك يلقى الرَّجل الرَّجل فيقول: كم تزوجت؟.. ماذا عندك من السراري؟..
وكانت همَّة “عمر بن عبد العزيز” في قراءة القرآن وفي الصَّلاة والعبادة؛ وكان الناس كذلك يلقى الرَّجل الرَّجل فيقول: كم وردك؟.. كم تقرأ كل يوم؟.. ماذا صليت البارحة؟..”.
وهذا محمد رشيد رضا يقرِّر هذه المسألة بأجلى عبارة، قال: “وقد مضت سنَّة الاجتماع في تقليد النَّاس لأمرائهم وكبرائهم، فكل ما راج في سوقهم يروج في أسواق الأمَّة”، مجلة المنار – المجلد الرابع – ص ٨٨١.
عوداً إلى كلام أبي بكر -رضي الله عنه- في ربطه استقامة النَّاس باستقامة الأئمَّة المُطاعين، رؤوس النَّاس وأشرافهم؛ نجد أنَّ عبارة أبي بكر -رضي الله عنه- أدق وأجمع من عبارة “النَّاس على دين ملوكهم”؛ ففي هذه العبارة قصور من جهتين؛ من جهة أنَّ الأمر يشمل الملوك وغيرهم من الرؤوس، ومن جهة أنَّ محاكاة النَّاس لملوكهم تقتضي أنْ يكون للملوك جاذبيَّة تجعل النَّاس يطيعونهم ويقلدونهم بمحض إرادتهم، وبعض الملوك يفتقد لهذه الصِّفة؛ ولذلك كانت عبارة الصِّديق -رضي الله عنه- أصح وأفضل.
ولأن هؤلاء الأئمة المُطاعين هم سبب استقامة النَّاس وهم سبب ضلالهم، كان النَّبي -صلى الله عليه وسلم- يحذِّرنا منهم أشد الحذر؛ قال النَّبي -صلى الله عليه وسلم-: “أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلُّونَ”، وقد صحح الحديث عدد من العلماء منهم الألباني وابن تيمية وغيرهم، وقال ابن تيمية فيه: “فالأئمَّة المضلُّون هم الأمراء”، بل هم كلُّ الرُّؤوس المُطاعون، الذين ذكرهم الصِّديق -رضي الله عنه-.
* طريقة الأنبياء في التغيير:
غالى بعض النَّاس في هذا الموضوع لدرجة أنْ زعموا أنَّ دعوة الأنبياء محصورة في الملأ أو تكاد تكون، دون أن تكون هناك دعوة حقيقية للعامَّة؛ وهذا التصور مجانب للحقيقة، فدعوة الأنبياء لا تميز بين شريف وضعيف، بل هي موجهة لكل البشر.
عند قوله تعالى: {فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس: ١٠] قال ابن كثير: “أمر الله -عز وجل- رسوله -صلى الله عليه وسلم- ألا يخص بالإنذار أحدا بل يساوي فيه بين الشريف والضعيف والفقير والغني والسادة والعبيد والرجال والنساء والصغار والكبار، ثم الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة”.
بل إنَّ القرآن يخبرنا في أكثر من موضع أنَّ السَّادة الكبراء وأهل الأموال والرئاسات هم أعداء الدعوات، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف: ٢٣].
قال الطبري في تفسيرها: “لم نرسل من قبلك يا محمد في قرية، يعني إلى أهلها، رسلا تنذرهم عقابنا على كفرهم بنا فأنذروهم وحذروهم سخطنا، وحلول عقوبتنا بهم (إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا)، وهم رؤساؤهم وكبراؤهم.
كما حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا) قال: رؤساؤهم وأشرافهم”.
فكيف كانت طريقة الأنبياء والمصلحين الناجحين؟
في الحقيقة، من تتبع سير الأنبياء -عليهم السلام- والمصلحين النَّاجحين فسيلاحظ شيئا مشتركا بينهم، ليس ضرورة أن يكون هو السبب الوحيد في النجاح، لكنه حتما كان عاملا مؤثرا. سيجد أنَّ تركيزهم في البداية يكون في الغالب على تنشئة القاعدة الصلبة أو الصفوة البديلة، التي ستحل محل الأشراف القدماء، وهذه التنشئة تتمُّ على عدة مستويات: تنشئة علمية، وتنشئة إيمانية، وتنشئة نفسية…، ثم بعد ذلك تبدأ هذه الصفوة بالعمل فيصبح لهذه الفئة الجديدة جاذبية وتصبح محط إعجاب الجماهير، إلى أنْ تبدأ الجماهير بمحاكاة هذه الصفوة الجديدة، والانفضاض عن الصفوات القديمة، ثم تحمل الجماهير هذه الدعوة وتنطلق بها..
واتباع الجماهير للصفوة الجديدة قد يكون باعثه الحقيقي معرفة الحق الذي كانت تحول بينهم وبين معرفته الصفوة القديمة، وقد يكون انبهار بعض الجماهير بالطاقة الإبداعية وتضحيات هذه الصفوة الجديدة، أو لأن بعض النفوس تعرف الحق بحسب القوة المادية والانتصارات التي يحققها؛ ولذلك كان من دعاء إبراهيم -عليه السلام- والذين معه: }رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا{ [الممتحنة: 5]، ومن دعاء الذين آمنوا مع موسى -عليه السلام- }رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ{ [يونس: 85]، وقد تكون هناك أسباب أخرى..
في كتابه “الحضارة” يقول حسين مؤنس: “لا بد إذن من تمهيد أو إعداد فكري لكل حركة تاريخية ذات مغزى حضاري حتى تأخذ الحركة معناها ومكانها الكاملين في مجرى التاريخ، وهذا التمهيد أو الإعداد الحضاري هو الذي يسمى الوعي الحضاري…
ولا يعرف التاريخ حركة ذات معنى حضاري أو أثر في تقدم الجماعة أو الإنسانية كلها إلا ونهضت بعبئها هذه الأقلية الواعية”.
وهذه المرحلة، مرحلة الإعداد الحضاري، هي المرحلة التي يسميها توينبي “الاعتزال”، والمرحلة التي تنطلق فيها الصفوة لبث فكرتها بين الجماهير يسميها “العودة”. والأمران “الاعتزال” ثم “العودة” ضروريان لنجاح الفرد أو الجماعة المبدعة في الرقي الحضاري، كما يقول توينبي في كتاب “مختصر دراسة للتاريخ”، يقول: “ويتيح الاعتزال للشخصية تحقيق الطاقات في ذات داخليتها”، ويقول: “ولكن التجلي باتخاذ طريق الاعتزال يصبح بلا غاية، بل ويغدو لا معنى له، اللهم إلا إن أصبح توطئة لعودة الشخصية المتجلية إلى الوسط الاجتماعي الذي وفدت منه أصلا”. ويضرب لذلك أمثلة بموسى ومحمد – عليهما السلام- ودانتي وميكافيلي وغيرهم…
هنالك أمثلة كثيرة من تاريخ أمتنا تنطبق عليها هذه النظرية، سنأخذ ثلاثة أمثلة من أزمان متباعدة:
– المثال الأول هو دعوة النَّبي -صلى الله عليه وسلم- وكيف نشأت الصفوة الأولى من المهاجرين والأنصار، وما مرت بها من فترة إعداد حضاري على المستوى العلمي وعلى المستوى الروحي والنفسي، ثم بعد أن قدمت هذه الصفوة التضحيات الجسام – وهذا قدر الصفوات- وما تحقق على يديها من إنجازات، فأزالت الصفوات القديمة التي كانت تحول بين الناس والحق، وأصبحت محط إعجاب الناس القريبين منها، وبدأ الناس يتبعونهم {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا}.
– المثال الثاني: هو دولة المرابطين، وكيف نشأت هذه الدولة من مرحلة اعتزال وتمهيد حضاري، ثم عودة قوية واكتساح معظم القارة الأفريقية، ثم الصعود إلى الأندلس.
– المثال الثالث: هو الطالبان، كيف نشأت القاعدة الأساسية لهذه الجماعة، وكيف استطاعت أن تحقق ما حققته من ثبات وإنجازات حتى الآن.
في كتابه “كيف ندعو الناس” يقول محمد قطب: “القاعدة الصلبة إذن ضرورة، وليست ترفا، أو أمرا زائدا عن الحاجة، أو شيئا يمكن السير بدونه مسيرة صحيحة”.
لتحميل نسخة من المجلة يمكنك الضغط هنا
لقراءة باقي المقالات يمكنك الضغط هنا