الأستاذ: حسين أبو عمر
قبل أربع سنوات فقط، في عام 2017، كان قد نشر المفكر الأمريكي ريتشارد هاس، وهو دبلوماسي أمريكي، كان يشغل منصب رئيس مجلس العلاقات الخارجية منذ يوليو 2003، وقبل ذلك كان يشغل منصب مدير تخطيط السياسات في وزارة الخارجية للولايات المتحدة ومستشار مقرب لوزير الخارجية كولن باول، كان قد نشر كتابه (A WORLD IN DISARRAY) وهو عنوان اختلفت الترجمات العربية عليه، ولعل الترجمة الحرفية له هي (عالم في اللانظام)، يقول المؤلف: “فيما يتعلق بعنوان الكتاب، أود أن أشير هنا، قبل المضي قدمًا، أن كلمة Disarray قد اختيرت عن رَويَّة وتبصُّر. لقد بحثت بعمق في القواميس وبين المترادفات، فلم أجد كلمة أخرى تعبر بشكل أفضل عما هو كائن الآن. أقول هذا، كي أوضح أن كلمات مثل Anarchy أو Chaos، لم تلق قبولا لدي، حيث لا تصف أي منهما العالم، رغم أن ما يحدث في الشرق الأوسط، وكما سوف نناقش فيما بعد، يقترب بالمنطقة مما تعنيه هاتان الكلمتان، على نحو خطير. لكل هذا، يُعد القول بوجود نظام عالمي جديد نوعًا من الإغراق في الخيال، إن كلمة Disarray تصف ما نحن فيه الآن، وما نحن سائرون إليه”.
الكاتب نفى، وقت تأليفه لكتابه، أن يكون الوضع الدولي في حالة Anarchy (وتعني الفوضى السياسية وغياب السلطة) أو أن يكون في حالة Chaos (وتعني الفوضى الكاملة)، فيما عدا ما يحدث في الشرق الأوسط.
* الوضع الدولي اليوم:
يشهد الوضع الدولي حاليًا تغيرات ليست بالهينة: من انهيار تحالفات، ونشوء تحالفات جديدة، وفراغات ستنشأ عقب انسحاب قوى، مما يوفر الفرصة لظهور قوى جديدة، وحشودات في أوكرانيا، واحتكاكات في تايوان وبحر الصين الجنوبي تكاد تصل إلى “حافة الهاوية”، لدرجة أن حذرت الصين قبل أسابيع من أن “الحرب العالمية الثالثة يمكن أن تندلع في أي وقت..”.
يرى بعض الكتاب في العلاقات الدولية (على رأسهم أورجانسكي) أن تحول القوة -عندما يبدأ ميزان القوة يتحول من صالح دولة مهيمنة لصالح دولة أخرى، يطلقون عليها اسم المتحدي الصاعد- يؤثر بشكل كبير على علاقة الدولة الصاعدة بالدولة المهيمنة، بل وعلى هيكل وشكل النظام الدولي، وعلى الاستقرار والأمن الدولي، وتعتبر عملية تحول القوة مؤشرًا من مؤشرات نشوء الحروب الكبرى..
هنالك الكثير من الدراسات التي تناولت موضوع تحول القوة لصالح الصين وأثره على النظام العالمي، وعلى السلم والاستقرار الدولي، منها (تحول القوة وتأثيرها على الصعود الصيني (2018 : 2008))..
في كتابه (رؤية استراتيجية) تنبأ مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق زبيغنيو بريجنسكي بأن: “العالم بعد أمريكا: مع حلول عام 2025 ليس صينيًا وإنما فوضويًا”. وقال أيضًا: “من شأن آسيا الشرقية والجنوبية أن تكونا المنطقتين الأكثر هشاشةً وقابلية للنزاعات الدولية في عالم ما بعد أمريكا”.
حقيقةً، الواقع الدولي اليوم، من شبه القارة الهندية مرورًا ببحر الصين الجنوبي وصولًا إلى المحيط الهادئ في حالة توتر، ومقبل -فيما يبدو- على فوضى عامة (Chaos)، وليس فقط على حالة من اللانظام (Disarray)، وحالة توتر أخرى في أوكرانيا، تتزايد حدتها يومًا بعد يوم.
* استغلال الفوضى:
في كتابه (النظام العالمي: تأملات حول طلائع التاريخ ومسار الأمم)، ذكر هنري كيسنجر شيئًا مما دار بينه وبين الرئيس الصيني وقتها جو إنلاي، قال: “في تموز / يوليو 1971 -إبان زيارتي السرية لبكين- قام جو إنلاي بتلخيص تصور ماو للنظام العالمي عبر استحضار صلاحية أباطرة الصين المزعومة من قبل الرئيس مع إضافة مسحة تهكم ساخرة قائلًا: كل ما تحت السماء في فوضى، الوضع رائع!”.
لكن، لماذا اعتبر ماو تسي تونغ أن الفوضى وضع ممتاز ورائع، ولماذا كرر جو إنلاي مقولة ماو الشهيرة؟
هنالك حقيقة تنطبق على الواقع سواءً كان على المستوى المحلي أو الإقليمي أو الدولي، وهي أن القوى المهيمنة تحاول دائمًا ضبط الواقع وفرض قوانين اللعبة وإبقاء الأمور تحت السيطرة، وتعمل جاهدةً على منع أي محاولة للإخلال بهذا الوضع، الذي يضمن لها هيمنتها.. بينما تعمل قوى التغيير، الرافضة لهيمنة تلك القوى، تعمل على نشر الفوضى، واستغلال أي فوضى أو فراغ، تفقد فيه القوى المهيمنة سيطرتها كليًا أو جزئيًا، من أجل تغيير موازين القوة لصالحها، وتحقيق مكاسب ومكانة في النظام الدولي.
وهذا الأمر، كما أسفلنا، ينطبق على كل المستويات: فعلى المستوى المحلي تسعى الحكومات لضبط الأوضاع ومنع كل أشكال الفوضى، ما يضمن لها بقاءها في السلطة، بينما تسعد قوى التغيير (ثوار…) بالفوضى، وتسعى لاستغلالها لصالحها، من أجل إسقاط الحكومة أو تحقيق مكاسب معينة…
أما على المستوى العالمي، فإن القوى المهيمنة تسعى للحفاظ على “الوضع الراهن”، أي ما يضمن لها هيمنتها، ويمنع أي قوة من منافستها، بينما تسعى الدول الطموحة الباحثة عن مكانة قوية في الواقع الدولي لاستغلال أي فرصة لتحقيق هذه المكانة. وهكذا كانت الصين تجد في المنافسة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق وضعًا ممتازًا، واستغلته أيما استغلال لتحقق لنفسها المكانة التي تتبوء بها اليوم.
تحاول روسيا، في الوقت الحالي، أن تقوم بنفس اللعبة.. تحاول استغلال الانشغال الأمريكي بالصين لتحقيق مكاسب على الساحة الدولية بشكل عام، وفي محيطها القريب بشكل خاص -أوكرانيا حاليًا، وغالبًا في مناطق أخرى في المستقبل-.
في كتابه (قواعد الحزم) يقول إدريس أوهلال: “العالم هو مجموع القوانين التي تحكمه، ومعرفة العالم تقوم على معرفة هذه القوانين والسنن..
قواعد اللعبة: هي ما يضبط سلوك اللاعبين ومواقفهم وقراراتهم، وتتوزع الأدوار حولها كالتالي:
• يفرضها الكبار..
• يلتزم بها ويسير في طريقها التابعون..
• يتوهم إمكانية تغييرها من الداخل الطيبون..
• ينازع عليها ويسعى إلى تغييرها المتحدي الشجاع..
إذا كنت لاعبا جديدا اعتمد استراتيجيات ثورية مناهضة لقواعد اللعب القائمة لتغييرها”.
نحن -المسلمين-، تتوافر لدينا كل الأسباب التي تدعونا للثورة على قواعد النظام الدولي وأدواته في بلداننا ‐الحكومات العميلة‐ (تبديل شريعة ربنا ومحاربة دينه، عمالة للخارج، ظلم، فساد، فقر، استبداد…)
– كما تتوفر لدينا القدرات الكافية لتحطيم هيمنة النظام الدولي وأدواته على بلداننا ومقدراتنا،
– والظرف الدولي اليوم مواتي للخروج من عباءة الهيمنة الغربي، وتحرير بلداننا،
– لا ينقصنا إلا نخب حقيقية، واعية عاملة، مستعدة للتضحية واقتناص الفرصة في تحرير بلداننا ومقدراتنا.
هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٣١ جمادى الأولى ١٤٤٣ هـ
لتحميل نسخة من المجلة اضغط هنا
لقراءة المجلة تابع ⇓
مجلة بلاغ - عدد 31 - جمادى الأولى 1443