الشَّامُ ربَّانِيَّةٌ لا أُمَوِيَّةٌ ولا عَبَّاسِيَّةٌ مجلة بلاغ العدد ٧٢ – ذو القعدة ١٤٤٦ هـ

الأستاذ: أبو يحيى الشامي

الحمد لله الذي بارك في الشام للعالمين، وجعلها خيرَتهُ من أرضه وعُقرَ دار المؤمنين، وأرضَ الرباط وفسطاطَ المسلمين، والصلاة والسلام على من دعا بالبركة للشام، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

إن المكانةَ العالمية والإسلامية، الدنيوية والدينية للشام وأهل الشام، ليست بالانتساب إلى ظلٍ زائلٍ، ولا إلى نجمٍ آفلٍ، ولا قومٍ راحلين، ولا دولةٍ دائلة، وقد يُعذر من ينساق بردَّةِ الفعل إلى الانتساب ونسب الشام إلى بني أمية الملوكِ رحمهم الله وغفر لهم، ليقابل الفعل الذي قام به الروافض من غلوٍّ في آل البيت ومعاداةٍ لبني أمية وأهل الشام، بزعم أنهم أتباع بني أمية الذين ناصبوا آل البيت العداء، لكن التمادي في هذا الأمر والغلوَّ فيه لا يقل بطلاناً وخطراً عن الغلوِّ المسبب له، ولا يختلف في أصله المجانب للصواب المخالف للحق والحقيقة.

فإن كان استعمالُ نسبةِ الشام وأهل الشام إلى بني أمية من باب المجاز، ولا يتصور عاقلٌ أن هذه النسبة على حقيقتها، فليس أهل الشام بعربهم وعجمهم وقبائلهم وعوائلهم ينتسبون إلى بني أمية على الحقيقة، وانتساب المرء إلى غير أهله فريةٌ إثمها عظيم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ ادَّعَى قَوْمًا لَيْسَ لَهُ فِيهِمْ نَسَبٌ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ”، رواه البخاري ومسلم، والسؤال هنا لأي أمرٍ عظيم يكون هذا المَجازُ وهل يتفق مع نصوص الوحي التي يخضع لها المؤمن التقي؟

إن كان الانتسابُ لبني أمية لأن دولتهم كانت عاصمتُها في الشام واتسعت فوصلت إلى الصين شرقاً والأندلسِ غرباً، فإنها ليست دولةُ بني أميةَ بل دولة الإسلام، فالمجاهد الذي شارك في الفتوحات إنما خرج يجاهد في سبيل الله ولإعلاء كلمته ولتحكيم شرعه، لا لتكون دولة فلان أو دولة بني فلان، كما أن دولاً كثيرةً قامت على أرض الشام منها ما اتسع أكثر من اتساع دولة الإسلام في عهد بني أمية، ودام أكثر، قبلها في الزمن وبعدها.

الأراميون والكنعانيون والفينيقيون والحِثِّيون والفراعنة المصريون والبابليون والآشوريون حكموا الشام قبل الميلاد، ودولة سليمان عليه السلام كانت في الشام واتسعت فحكمت العالم كله، واليونانيون سيطروا عليها قرابة 300 عامٍ قبل الميلاد، والروم احتلوها 700 عامٍ، حتى أتى الفتح الإسلامي، فحكمتها الدولة الراشدة 27 عاماً، ثم الدولة الأموية 90 عاماً، ثم الدولة العباسية 500 عامٍ، ثم دولة المماليك قرابة 300 عامٍ، ثم الدولة العثمانية 400 عامٍ، وبعدها كان ما كان من احتلال بريطانيٍّ فرنسيٍّ صهيونيٍّ، تقاسموها باتفاقية سايكس بيكو، ثم وظفوا أذناباً لهم؛ الأنظمةَ العميلة الساقطة بإذن الله تعالى.

فإن كان للانتساب معاييرُ معنويةٌ دينيةٌ أو ماديةٌ دنيويةٌ، فلماذا الانتساب إلى بني أمية الذين لم تكن دولتهم نبويَّةً كدولة داوود وسليمان عليهما السلام، ولا راشدةً شُوريةً كدولة صدر الإسلام بل ملك متوارث، ولم تحكم العالم ولم تدم قروناً كغيرها من الدول، إلا أن يكون هذا الانتساب هوىً في النفس تحرك نكايةً بالرافضة ومناكفةً لهم، وهذا لا يحقُّ حقاً ولا يبطلُ باطلاً، إنما تعود النفس إلى الحق بعده أو تتمادى في العصبية المنكرة، ولئن كان تأثر بها أناسٌ معروفون يعودون إلى رشدهم إذا ذُكِّروا، حولها جاهلون مجهولون إلى دعوةٍ ناصبية تهاجم حتى من يرفض نسبة بلاد الشام عظيمة القدر إلى عائلةٍ حكمت قبل أكثر من ألف عام، وهي عائلةٌ حاكمةٌ على كل حال، رضي الله عن صالحها وغفر لطالحها، ولا شك في وجود جهاتٍ مغرضةٍ فيمن ينفخ ويُسعِّر هذه الدعوة، تسعى في إشغال أهل الشام عن حقيقة رسالتهم وما فرض الله عليهم.

أما إن انتسبت البلاد وافتخرت، فإن الشام تنتسبُ إلى الله عزَّ وجلَّ، وذلك لكثرة الأدلة على مكانتها العظيمة السَّامِيَةِ التي حباها الله إياها، ومن هذه الأدلة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعبد الرحمن بن حوالة رضي الله عنه: «عليكَ بالشَّامِ، فإنَّها خيرةُ اللَّهِ من أرضِهِ، يَجتبي إليها خيرتَهُ من عبادِهِ» صحيح رواه أحمد وأبو داود والترمذي، فهذا تصريحٌ نبويٌّ ينسب الشام إلى الله عز وجل فهي خيرته من أرضه.

وإن الله بارك في الشام للعالمين، والعالَمون جمع عالَم، وهذا يقتضي أن تكون البركة فيها قبل أن يُخلق عالم الإنس، فهناك عوالم أخرى سابقةٌ لعالم الإنس، وهذا معروف، قال الله تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:71]، وقال الله تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۚ وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} [الأنبياء:81]، وقال الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1]، قال ابن رجب الحنبلي – رحمه الله-: “واعلم أن البركة في الشام: تشمل البركة في أمور الدين والدنيا، ولهذا سميت الأرض المقدسة”. (مجموعة رسائل ابن رجب 3/224)، فحري أن تنتسب هذه الأرض ذات المكانة العظيمة إلى من خلقها وبارك فيها وقدسها جلَّ وعلا، فبلاد الشام ربانية.

وإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بالبركة في الشام للمسلمين، وهي بركةٌ خاصةٌ غير البركة العامة للعالمين، قال صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ بارِكْ لنَا في شامِنَا، وفي يَمَنِنَا» رواه البخاري، وقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ رَأَيْتُ عَمُودَ الْكِتَابِ احْتُمِلَ مِنْ تَحْتِ رَأْسِي، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ مَذْهُوبٌ بِهِ، فَأَتْبَعْتُهُ بَصَرِي، فَعُمِدَ بِهِ إِلَى الشَّامِ، أَلَا وَإِنَّ الْإِيمَانَ حِينَ تَقَعُ الْفِتَنُ بِالشَّامِ» صحيح رواه أحمد، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عُقْرَ دَارِ المؤمنينَ الشَّامُ» صحيح رواه أحمد والنسائي، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ فُسطاطَ المسلمين يومَ الملحمةِ بالغُوطةِ، إلى جانبِ مدينةٍ يُقالُ لها: دمشقُ، من خيرِ مدائنِ الشَّامِ» صحيح رواه أبو داوود وأحمد، فحري أن تنتسب الشام إلى من جعل لها هذه الخصائص جلَّ وعلا، فالشام ربانية.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “والنبي صلى الله عليه وسلم ميَّز أهل الشام بالقيام بأمر الله دائماً إلى آخر الدهر، وبأن الطائفة المنصورة فيهم إلى آخر الدهر، فهو إخبار عن أمر دائم، مستمرٍ فيهم، مع الكثرة والقوة. وهذا الوصف ليس لغير أهل الشام من أرض الإسلام..؛ فلم يزل فيها العلم والإيمان، ومن يقاتِل عليه، منصوراً مؤيداً، في كل وقت” (مجموع الفتاوى 4/449).

وإذا دقق المرء اليوم في تصريحات أعداء الإسلام والمسلمين من شرقٍ وغرب، يجد أن مصطلح أو مجاز بني أمية شاع بينهم، فهم يستعملونه لمناكفة وتهديد أهل الشام والاستهزاء بهم، وهذا ظاهره، أما باطن الأمر ودلالته الأعمق؛ فتحجيمٌ لأهل الشام ودورهم الديني والحضاري، الذين هم في قلب العالم الإسلامي، وهم محطُّ نظر الأمة المسلمة، انتسابهم يكون إلى الإسلام فالله سماهم المسلمين إذ أقرها لإبراهيم عليه السلام، قال الله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ۚ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ۚ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ۖ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:78]، وانتسابهم يكون إلى الشام الأرض المقدسة المباركة التي تهوي إليها قلوب المؤمنين المجاهدين، ولقد كان اسمها عند العثمانيين “ولاية شام شريف” لعظم قدرها وقداستها وبركتها.

وإن الانتساب إلى الله عز وجل أعظم انتساب، وهو فضلٌ خاصٌ بالعباد الصالحين، وهو وصية المرسلين التي أمر بها ربُّ العالمين، قال الله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79]، فهل في القرآن والسنة دليلٌ أن الشام تنتسب إلى غير الله، أو أن أهل الشام ينتسبون إلى غير الإسلام…. إذاً، الشَّامُ ربَّانِيَّةٌ لا أُمَوِيَّةٌ ولا عَبَّاسِيَّةٌ.

هذا، والحمد لله على نعمة الإسلام، ونعمة الرباط في الشام، وأسأل الله أن يهدي الشباب المسلم إلى العلم النافع، وما يحب ويرضى من القول والعمل، اللهم آمين.

Exit mobile version