الزِلزالُ والاستِبدال – مجلة بلاغ العدد ٤٦ – شعبان ١٤٤٤هـ

الأستاذ: أبو يحيى الشامي

بعد الزلزالِ الذي ضربَ جنوبَ تركيا وشمالَ غربِ سوريا، أي المنطقة الثوريَّة المحرَّرة بالتَّحديد، بدت البغضاءُ من أفواهِ الغربِ بعد الشَّرقِ، وعبَّرت عنها مجلةُ شارلي إيبدو الفرنسية الساخرة التي رسمت الزلزال وكتبت “لا حاجة إلى إرسال دبابة”، أي أن الزلزال تكفَّل بقتلِ المسلمين.

وظهرت البغضاءُ والمكيدة في صنيعهم الذي حاولوا تبريره بمبرراتٍ كاذبةٍ واهيةٍ، حيث حجزوا المساعدات عن المنطقة المضطرة إليها لإخراج العالقين الأحياءِ من تحت الأنقاض، ثم ادعوا أن معوقات لوجستية منعتهم من إرسال المساعدات، فكانت ضارةً نافعةً، حيث اعتمد المسلمون في هذه المنطقة على ما يستطيعون من عُدةٍ وجهدٍ، ووفقهم الله إلى إنقاذ عددٍ كبيرٍ من العالقين، واتخذ الله ممن مات تحت الركام شهداء، نسأل الله أن يجمع لهم أجر شهادة الهدم مع أجر الصبر والرباط، وإن الشهادة ليست لأحدٍ من غير المسلمين.

لقد تعمدت “الأمم المتحدة” واجهةُ النظام الدولي المعادي للإسلام والمسلمين الضغط لتحصيل مكسبٍ سياسيٍّ للنظام المجرم، وعندما لم تستطع تمرير المساعدات من مناطق سيطرته، ادعت أنه سمح بدخولها من معابر إضافيةٍ من تركيا وشكرته على ذلك، لتظهره بمظهر النظام الحاكم الشرعي المعترف به دولياً، فنتج عن هذا البيان العملي الكافي الوافي المكرر كثيراً من “الأمم المتحدة” فريقان، كلا الفريقين غير خطه وخطته ونظرته وتعامله مع هذه المؤسسة الواجهة، وكانت مفارقة غير مستغربةٍ نظراً لمقدِّماتها.

من بَدَّلَ استُبدِلَ، ومن استُبدِلَ لا ينالُ خيراً، عنْ أبي هُرَيْرةَ رضي الله عنه، قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «الشُّهَدَاءُ خَمسَةٌ: المَطعُونُ، وَالمبْطُونُ، والغَرِيقُ، وَصَاحبُ الهَدْم، وَالشَّهيدُ في سبيل الله». متفقٌ عليهِ، فصاحب الهدم الذي مات تحت الرُّكام بسبب الزلزال له أجر شهيد، لكنه يجب أن يكون ثابتاً على الدين الحق غير مبدِّل، فالذي يبدل يُستبدل ولا ينال أجراً، حيث الأساس منعدمٌ أو واهٍ لا يمكن أن يحمل أو يحتوي شيئاً، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أَلَا لَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ؛ أُنَادِيهِمْ: أَلَا هَلُمَّ. فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ. فَأَقُولُ: سُحْقًا سُحْقًا». رواه مسلم.

قال الله تعالى: (.. وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم) [محمد: 38]، في معرض الحاجة إلى المواقف، تظهر التغيُّرات والتقلُّبات، وبينما تُنتظر مواقف الحق والإخلاص في وقت الزلزلةِ، إذ لا ملجأ من الله إلا إليه، تجدُ القلوب التي غطاها الرَّانُ وطُبعَ عليها تفشلُ في الامتحان، وتسقط أكثر وأكثر في تيه الضلال والإضلال، وبينما يتأكد عوام المسلمين وفئاتٌ ممن تتعامل مباشرة مع هذه المؤسسات الدولية من تواطئها مع العدو، فيخاطبونها بلهجةِ مفاصلةٍ تامةٍ، ويرفعون الأحذية على حرفي شعارها UN، يستقبل الذي كفَّرَ من تعامل مع الدول أو هذه المنظمة معاملةً عاديةً أو تعاون معها في شأن عاديٍّ، يستقبل وفودها بالحفاوة والتكريم، بعد كل هذا التآمرِ والتأخير، وباللباس السافر والرأس الحاسر للموفدات، في منطقةٍ يدعي من يسيطر عليها الحكم بالشريعة، وفعله للدلالة على إمكان تقبل هذا السفور، ولتكريس صورة التسامح ونفي صورة الإرهاب عنه هو، فيبقى التصنيف ويسقط قليلُ ما تزيا به من صورة المروءة والإباء.

الدفاع المدني السوري “الخوذ البيضاء” الذي كان له الدور الأكبر في الإنقاذ والإغاثة بعد الزلزال، كان لمديره موقفٌ شديدٌ من الأمم المتحدة ثم من وفدها الذي دخل إلى إدلب، ففِعل المنظمة ليس خذلاناً بل تآمرٌ على الثورة ثم تهديدٌ لمن يدينه ويرفضه، ومَن شعر بالخذلان لا يقر بعداوة النظام الدولي للدين والمسلمين، بل يراه مرجعيةً ويعتمد على مؤسساته، ولو أنه يرى عداوته لما شعر بالخذلان، فإن الخذلان لا يأتي من عدو.

إن الزلازل من الآيات التي يخوف الله بها عباده، قال الله تعالى: (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا) [الإسراء: 59]، يعينهم بها على الذكرى والاعتبار والعودة إلى الصراط، فإن أبوا فإن الاستبدال قد يكون بالإهلاك، قال تعالى: (وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ) [الأنبياء: 11]، وقد يكون بتبديل الحال وتغيير النعمة، قال جل وعلا: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال: 53]، وقال جل شأنه عن سبأ: (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ) [سبأ: 16].

وقد يكون الاستبدال بالإبعاد ونزع الأمانة والتوكيل بالعمل للدين، فيسقط المستبدل الذي لم يحفظ نفسه فيما وُكِّلَ به امتحاناً، ويبقى في مهاوي وتيه الضلالة حتى يهلكه الله ومرده عذاب الآخرة والعياذ بالله، قال الله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ) [الأنعام: 89].

فكيف إن كان الاستبدال مقروناً بالعذاب والنكال والمهانة في الدنيا قبل الآخرة؟، وقد كان في أقوام سابقة مما بلغنا خبره، كالتيه الذي هلك فيه جيل من بني إسرائيل رفض النَّفيرَ إلى العدوِّ لقتاله كما أمر الله، قال الله تعالى محذراً عباده: (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [التوبة: 39]

فلا عجب من سقوط أقوام أو سقوط أقنعتهم وأزيائهم التي كانوا يلبسونها ليوهموا الناس أنهم يجاهدون في سبيل الله لإقامة الدين والذود عن المسلمين، فلطالما حادوا عن سبيل الله سراً وعلانية، واستباحوا المسلمين بأيِّ ذريعةٍ يتخرَّصونها، فالغاية عندهم تبرِّر الوسيلة، وإن كانت الغاية الدنيا والاستزادة من المال والشرف، فما يبقي هذان الذئبان الجائعان من الدين شيئاً، ويوفق الله عز وجل من يشاء من عباده إلى سبيله وصراطه، يبصرونه فيختارونه ويلتزمونه، ويكون بهم ما لم يكن بمن كذب وغيَّرَ وبدَّلَ، نعوذ بالله من التبديل والاستبدال. 

Exit mobile version