الأستاذ: أبو يحيى الشامي
التَّوفيقُ، نعمةٌ عظيمةٌ، وسبب السَّعادة في الدَّارَين، من رُزِقَهُ سعيدٌ، ومن حُرِمَهُ شقيٌّ، وإنه يُمنَح للعبد في مرحلةٍ أو مراحل من عمره وعمله، ويُحرم منه العبد في مرحلةٍ أو مراحل من عمره وعمله، وما أفدحَ الحِرمان من التوفيق إن كان مع استدراجٍ وفتنةٍ، واجتهادٍ من نوع: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)} [الكهف: 103 – 104].
التَّوفيقُ في اللُّغةِ من وفَّقَ، ويكون ذلك بالوصول إلى التَّوافق بين شخصين أو أمرين، وفَّق فلانٌ بين خصمينِ: أصلح ذاتَ بينهما، ووَفَّقَ اللهُ أَمرَ فلانٍ: أَعطاه له موافقًا لمراده، ووفَّقه الله إلى الخير: ألهمه إيّاه وسدّد خُطْاه، والتَّوْفِيقُ من الله للعبد: سَدُّ طريق الشَّرّ وتسهيلُ طريق الخير.
جاء ذكر التَّوفيقِ في القرآن الكريم بمعناه اللغوي في مواطنَ كثيرةٍ، أما ذكره بمبناه ومعناه اللغوي ففي قول شعيب عليه السلام، {قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].
هذه آيةٌ عظيمةٌ اشتملت على ذكر البيِّنة كنايةً عن الهدى، والرزق، والإصلاح، والتوفيق، واشتملت على إشارةٍ إلى سببٍ عظيمٍ من أسباب التوفيق، وهو الإخلاص المشتمل على موافقة السر للعلانية، والعمل الصادق بالمبادئ المعلنة والشعارات المرفوعة، فهذه الخصلة ينال بها العبد رضا مولاه جلَّ وعلا، وما أفضلها إن اشتملت على الورع وصالح التوسل، فبذا يُلهمُ الخير والرشدَ ويُعانُ عليه، خلافاً للخديعة والغشِّ وفاسد التوسل، فإنها خصال تأتي على صاحبها وعمله.
وكيف يُفلحُ من يدعو الناس إلى هدًى هو كافرٌ به، أو خيرٍ هو مانِعه، أو عملٍ هو صادّ عنه، كما أن المخالف إلى المنكرات التي ينهى الناس عنها كاذبٌ ظالمٌ لا يفلحُ، لأن الجزاء من جنس العمل، ولأن فلاح هؤلاء الكاذبين فتنةٌ واستمراءٌ للفساد، والله لا يحب الفساد.
والتَّوفيق ثمرة التَّوكل على الله بعد العمل بالمستطاع، وإفراغ الوسع فيما أمر الله وأحب من العمل، وإنَّ أحبَّ عمل إلى الله هو الإصلاح، إصلاح ما بين العبد وربه، وإصلاح ما بين العبد وغيره من العباد، وكلُّ ذلك بالوسائل الطيبة التي يحبها الله ويرضاها، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، ويكون ذلك على قدر ما حُمِّلَ العبد من أمانةٍ ومسؤوليَّةٍ، يؤجر على قدرها وقدر العمل بها، ويؤزر على قدرها وقدر التَّفريط بها، وإن من رَشَدَ يسأل الله التوفيق في أي مقامٍ كان، قال عثمان بن أبي شيبة: حدثنا جرير، عن أبي سليمان العتبي، قال: كانت تجيئنا كتب عمر بن عبد العزيز فيها الأمر والنهي، فيكتب في آخرها: “وما كنت في ذلك إلا كما قال العبد الصالح: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}”. (تفسير ابن كثير).
إن خير التوفيق وأدومه ما يكون إلى عملٍ فيه معنى الاستعمال الرَّبانيِّ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا أراد الله بعبد خيراً استعمله“، قالوا: كيف يستعمله؟ قال: “يوفقه لعمل صالح قبل موته“. [رواه الإمام أحمد (11625) والترمذي (2142) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 1334]، ففي ذلك حياة البِرِّ والطاعة أو خاتمة السعادة أو كلاهما معاً.
ويظهر توفيق الله للعبد من الهداية إلى الحق، وصحبة أهله، والعمل به، وتحقيق شيءٍ من مظاهره ونتائجه، ويظهر الحرمان من التوفيق في عكس ذلك، من الضلال عن الحق، والبعد عن أهله، والحرمان من العمل به، والحرمان من تحقيق مظاهره أو نتائجه، وأكثر من ذلك الصدُّ عن سبيله، ومنع تحقيق مظاهره أو نتائجه، والعياذ بالله.
ولقد يجتهد الذي ضلَّ سعيه، وهو يحسب أنه يحسن صنعاً، ويجاهد يظن أنه في سبيل الله، ويسعى يظن للخير والحسنى، وإنما يؤتى من نفسه الشَّقية الغاشَّة الخادعة، فيستمر في الفتنة ويفتن غيره، ينحدر ويسوق غيره في مهاوي الهلاك، فبحرمان التوفيق من الله تكون كل خطوةٍ يخطوها جناية على نفسه تكبر وتزداد باستمرار الضلال والإصرار، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
إِذا لَم يَكُن عَونٌ مِنَ اللهِ للِفَتى
فَأَكثَرُ ما يَجني عَلَيهِ اجتِهادُهُ
وإنَّ أكثر ما يحرم المرء التوفيق إذا ادعى الغاية الصالحة متوسلاً بالوسيلة الفاسدة، ومثاله: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} [يوسف: 9]، فبقوا سنوات طويلة في تيه الحرمان من التوفيق، حتى قابلوا يوسف -عليه السلام- واعترفوا بذنبهم، {قَالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف: 91]، ولا يكون التوفيق إلى التوبة بعد الحرمان منها لأيٍّ كان، فإن باب التَّسويلِ هذا كباب البدعةِ خطيرٌ جداً، يترافق مع مكر السوء، الذي يعلمه الله ويُخيِّبه، ويُطلع عليه وعلى مآله من يشاء من عباده للعبرة والعِظة، قال تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [يوسف: 102].
إنَّ من حرمه الله التوفيق لا يقوم من طامَّةٍ إلا ويقعُ في أخرى، يحاول الاستكثار من الخير لنفسه، فينقلب عليه شراً، فلا يُفلح وإن مكر الليل والنهار ودبَّر ما دبَّر، فهو في ضلاله ومحاولاته كمثل الأبكم الكلِّ الذي لا يأتي بخير، {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 76].
لذا كان من خير دعاء المرء وأكثره حاجة إلى المداومة صباح مساء، أن يستعيذ من أن يكِله الله إلى نفسه، ففي ذلك الحرمان من التوفيق مهما اجتهد، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها: “ما يَمنعُكِ أنْ تسمَعِي ما أُوصِيكِ بهِ؟ أنْ تقولِي إذا أصبحتِ وإذا أمسيْتِ: يا حيُّ يا قيُّومُ برحمتِكِ أستغيثُ، أصلِحْ لِي شأنِي كلَّهُ، ولا تكِلْنِي إلى نفسِي طرْفةَ عيْنٍ“. رواه النسائي في السنن الكبرى، والبزار، والحاكم وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة.
ولِما تقدم وغيره مما لا يتسع المقال لذكره، كان طلب الإمارة والسعي إليها مذموماً؛ لأن من يطلبها يُوكل إليها ويُحرم التوفيق، فيحمل بظلمه أوزاره ومن أوزار من يلي أمرهم ويوكل بهم، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ، لاَ تَسْأَلِ الإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا” رواه البخاري (7146)، ومسلم (1652).
اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، والتوفيق في الأمر كله، ونعوذ بك من أن تكِلنا إلى أنفسنا أو إلى ما ولّيتنا طرفه عينٍ، وأصلح لنا ديننا وذات بيننا وشأننا كله… اللهم آمين.