الحقير – الواحة_الأدبية – -مجلة بلاغ العدد ٤٠ – صفر ١٤٤٤ هـ

الأستاذ: غياث الحلبي

كان يشعر بالمهانة الشديدة والحقارة المتأصلة منذ صغره؛ فقد كانت أكثر كلمة تطرق سمعه من أمه: يا حقير.

أخفق في دراسته؛ فقد رسب مرارا في المرحلة الابتدائية ولم يحز على شهادتها إلا لرغبة المعلمين في التخلص منه ومن مشاكله ومشاجراته وسوء خلقه، وإلا فهو لا يحسن القراءة والكتابة.

نقله أبوه للعمل عند ميكانيكي سيارات عله يتعلم منه مهنة يعيش من كسبها، إلا أن الميكانيكي سرعان ما طرده عندما اكتشف أنه يسرق.

ضربه أبوه كثيرا وشتمته أمه بأقذع الشتائم، ليس من أجل الحرام والحلال، فهذا لم يكن حاضرا في قاموس تلك الأسرة، بل لأنه طرد من العمل وشاعت قصته بين الناس، وسيكون من العسير أن يجد معلما يقبل بأن يعمل عنده.

كان يكره كل من حوله؛ أقرباءه وجيرانه ومعارفه وأصدقاءه، فالجميع يتحاشاه ويرغب عن صحبته ومجالسته، وهم جميعا ميسرة أمورهم إلا هو، يقلب بصره فيهم واحدا تلو الآخر فيزداد حقدا عليهم لشعوره بالدونية والسفالة.

كان يحاول تغطية ما يشعر به من نقص ببعض المظاهر الجوفاء؛ فيحتال ليحصل على بعض المال ثم ينفقه على تسريح شعره وطلائه بالمثبت، ويحمل في يده بشكل ظاهر علبة سجائر من نوع مارلبورو، مع أن السجائر التي داخلها ليست سوى حمراء طويلة أو شرق على أحسن الأحوال، ويلوي لسانه بالكلام ليتشبه بطبقة من الناس ويحاكي حركاتهم، إلا أن هذا لم يكن يغير من الأمر شيئا لسوء خلقه وفحش لسانه وخفة يده في السرقة، وكل ذلك كان يبعد الناس عنه فيزداد العداء في قلبه للمجتمع.

أمسكه الأهالي مرة وهو يسرق من جيب راكب في المواصلات العامة فأوسعوه ضربا وأخذوه لمخفر الشرطة، وهناك وجدت الشرطة فيه صيدا ثمينا فاختاروه ليعمل عنصرا على أحد الحواجز؛ فالصفات العملية المطلوبة التي يريدونها تتوفر فيه، وهي:

1 – الانسلاخ من الصفات الإنسانية لا سيما الرحمة.

2 – تعطيل العقل تعطيلا تاما والطاعة المطلقة.

3 – خسة النفس وحقارتها.

4 – الجهل الشديد مع الكبر والانتفاخ.

5 – الحقد على المجتمع وعداوته لا سيما أهل الخير والناجحين في حياتهم.

كانت هذه الصفات متوفرة فيه توفر الشر في الشياطين؛ لذلك سرعان ما تم تعيينه عنصرا في أحد الحواجز، واستلم البندقية، وبطاقة اللجان الشعبية “الشبيحة”، وارتدى اللباس العسكري، ونما في داخله شعور العظمة الكاذبة، فله اليوم سلطة إيقاف الناس وتفتيشهم، بل والإساءة إليهم والافتراء عليهم دون حسيب أو رقيب.

كان يشعر بمتعة عظيمة عندما يوقف سيارة ثم يأخذ في تفتيشها تفتيشا دقيقا، مع أنه يعلم أن لا شيء داخلها، غير أن مشهد رتل السيارات الطويل الذي يقف بسببه كان يسعده فهو السبب في ذلك وكلهم يقفون لأجله، ويكون سروره تاما عندما يجد في السيارة صاحب شهادة علمية أو طالب جامعة، فقد كان يتفنن في إذلاله وقد يتطور الأمر إلى ضربه، وكلما زادت القيمة العلمية للشهادة كلما زادت الإساءة إلى صاحبها وزاد مستوى الشتائم دناءة، ولا بد في كل مرة أن يصف الناس بأخص صفاته هو، فيخاطب صاحب السيارة بكلمة: “يا حقير” مرارا كثيرة.

وعندما يمر على الحاجز أي ضابط أو شبيح أعلى منه سلطة فإنه لحقارته يسارع إلى التذلل بين يديه وتملقه وتنظيف سيارته..

زاد إجرام هذا الحاجز ومضايقته للناس ومخاطبة من يمر به بكلمة “يا حقير”، حتى شاع في المنطقة أن هذا أحقر حاجز في المنطقة، وصار يُدعى هذا العنصر بالحقير لا يعرف إلا بذلك، وأصبح اسم الحاجز “حاجز الحقير” وامتد الوصف إلى سكنه وأهل بيته، فأصبحت الناس تقول: “شارع الحقير” و”منزل الحقير” و”والد الحقير” و”أم الحقير” و”شقيق الحقير”..

وذات يوم ذهب ليخطب من حي بعيد عن حيه، وبدأ والد الفتاة يسأله عن عمله وسكنه، وهو يتهرب من الإجابة..

– ماذا تعمل؟

– على حاجز تفتيش.

– أي حاجز؟

– حاجز في غرب المدينة.

– هناك خمسة حواجز في غرب المدينة، في أيهم تعمل؟

– الثاني الذي عند التقاطع.

– عرفته، إنه حاجز الحقير.

– حسنا، أين منزلك؟

– في المساكن.

– أي مساكن منها؟

– مساكن الحي الثالث.

– أين تحديدا؟

– بالشارع الذي خلف الملعب.

– عرفته، إنه شارع الحقير.

* وهنا انفجر الشاب غاضبا وأسرع خارجا من المنزل، وهو يصرخ: أنا الحقير أنا الحقير..

انتهت.   

Exit mobile version