الأستاذ: أبو يحيى الشامي
قبل 33 عاماً من الآن في 15 شباط / فبراير 1989 أعلن الاتحاد السوفياتي خيبته وانسحابه من أفغانستان، بعد أن مرَّغ المجاهدون الأفغان و”العرب الأفغان” رأسه وأرغموه، وحققوا بفضل الله وحده انتصاراً تاريخياً كان القشة التي قصمت ظهر البعير، وأدت إلى انهيار هذا الاتحاد الشيوعي المجرم إلى دول أكبرها روسيا التي ورثته برضا الغرب ورعايته، طمعاً في توظيفها وخوفاً من التسبب في فراغٍ إقليميٍّ كبيرٍ يؤثر على النظام الدولي القائم، والحاكم بطريقة ملء الفراغ وتوزيع السيطرة والاحتواء، هذا التوريث ظهر ندم الغرب عليه لاحقاً.
كان النصر الإسلامي في أفغانستان بعد مقدماتٍ وأسبابٍ، ولقد تلقى المجاهدون الدعم من الدول الغربية عن طريق وبمال الدول العربية وبالمسمى الذي حاربه النظام الدولي بعدها، إنه الجهاد في الوقت الذي تلاقت مصلحته مع مصلحة الحلف الغربي الذي كان في حربٍ باردةٍ وبالوكالة ضد الشيوعية، وإن من سنن الله القدرية التدافع بين الناس مؤمنهم وكافرهم، وإن من أوامره الشرعية للمؤمنين سياسة الدنيا بالدين سعياً في مصلحة الإسلام والمسلمين.
وبعد ثلاثة عقودٍ من انشغال الغرب في قتال الإسلام بذريعة مكافحة الإرهاب وبدونها، تصاعد وتضاعف التهديد الشرقي متمثلاً بالصين وروسيا والدول التي قد تنحاز إليهما إن نشبت حرب عالمية ثالثة، وإن مقدماتها تجري الآن في أوكرانيا بعد بدء الغزو الروسي الذي قد يتبعه في الوقت المناسب غزوٌ صينيٌّ لتايوان، وربما تحركاتٌ أخرى غير محسوبةٍ لا يمكن احتواؤها، وعلى كل حال سيكون لهذه الحروب صغيرها وكبيرها تداعيات خطيرة وفراغات بينية مفيدة يمكن استغلالها.
قرأت الكثير من التصريحات الغربية التي تشيد بطالبان مؤخراً وتدعو إلى التعامل مع حكومتها في أفغانستان ذات الموقع الهام استراتيجياً، إن هذا من مصلحتهم الآن وهم يخوضون حرباً شاملةً ضد روسيا الجزء العسكري منها الآن في أوكرانيا، وربما ضد الصين قريباً، هذا الذي جاء إلى طالبان بعد أن حاولوا الالتفاف على نصرها العسكري بالحصار السياسي والاقتصادي جاء قدراً بغير حول منها ولا قوة، لكنه بعد الكثير من الصبر والسياسة، وهو في تطورٍ مستمرٍ مع الأحداث.
لقد شعر كبار الساسة في الولايات المتحدة وأحلافها أنهم أخطأوا في التركيز على الحرب ضد الجماعات الإسلامية بينما هناك دولٌ تعمل بجدٍّ لتغيير موازين القوى العالمية وانتاج نظامٍ دوليٍ جديدٍ، وإن هذا مع نشوب الحرب الحقيقية في أوكرانيا أو غيرها فرصةٌ لا تعوض للخروج من بوتقة الصهر والاستهداف، هذا يشمل المسلمين في كل مكان، العاملين منهم للتحرر والتحرير واستعادة الدور الحضاري بالتأكيد.
علينا دائماً أن نركز على الشام، فهي القلب من العالم، وهي أرض الإيمان والرباط، وصلاحها صلاح وخير الأمة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يكون الخلاص من القيود ومرابط الاحتواء الدولية والمحلية، في الوقت الذي تسنح فيه فرصةٌ أو فرصٌ ربما لا تعوض؟!.
تواصل معي الكثير من الإخوة وقرأت لآخرين يتحدثون عن وجوب تحرك الصادقين في الشام من ثوار ومجاهدين للإفادة من فرصة انشغال روسيا التي تدعم النظام النصيري المجرم، وانشغال الغرب الذي يحارب المجاهدين، وهذا باتفاق آراء عامة أهل الشام لن يكون عبر الفصائل المسيطرة حالياً، وإن كان فإنه لغيرها فهي مالكةٌ مملوكةٌ حاكمةٌ محكومةٌ، ليس لها من الأمر إلا اقتسام المنطقة المحررة والسعي في البقاء المصلحي على هذه الحالة الواهنة، لكن الأفكار المطروحة لتحرر الصادقين وانطلاقهم إلى التحرير طروحاتٌ عامةٌ عاطفيةٌ إلا القليل منها، وهذا القليل لا يحسب لكل المعطيات حسابها.
الآن وأنا أكتب، قال رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية الروسي: “الحرب مع الغرب لم تعد باردةً بالنسبة لنا”، وهي ليست بالوكالة فروسيا تزج بقواتها النظامية في حرب مكلفة، تتعرض فيها لخسائر حربيةٍ وعقوباتٍ اقتصاديةٍ وسياسيةٍ، لكنها مصممةٌ ولا تريد أن تخسرها.
في سوريا حسبت القيادة الروسية حساب امتداد المواجهة فنقلت منذ أشهرٍ معداتٍ وذخائر بكمياتٍ ضخمةٍ إلى الساحل السوري، وهناك الحليف الإيراني ذو العقيدة الرافضية الأخطر والأحقد من العقيدة الصليبية، باض وفرخ على امتداد الجغرافيا السورية، وهناك التفاهمات الروسية مع تركيا أقرب صديق للثورة السورية، بزهدها الاستراتيجي وقناعتها بشريط حدودي محدود يحمي أمنها القومي ويحشر السنة السوريين كورقة سياسية لقابل الأيام، في سوريا التي يريد النظام الدولي لا كما أردنا نحن أن تكون، وهناك بعض القوى المحلية المدجنة والتي برمجت أجندتها لتوافق الحالة الراهنة أو لتغير فيها وفق المصلحة الضيقة السلطوية لها، كهيئة تحرير الشام مثلاً، وقد حازت رضاً أمريكياً معلناً، مع ما تستعمله من أساليب لملاحقة وقمع المخالفين ومنع أي تحركٍ منتجٍ لغيرها مهما كان.
الكتلة السكانية الكبيرة المحشورة في المخيمات وما تبقى من مدن وبلدات محررة في الشمال، غير محصنةٍ مادياً ضد الهجمات الوحشية التي لا يتورع عنها العدو المجرم، وغير منظمةٍ في تجمعاتٍ دفاعيةٍ هجوميةٍ يمكن الاعتماد عليها في فرصةٍ ذهبيةٍ كانت أو قد تكون، إن هذه الفصائل بقياداتها لا تمثل مرجعيةٍ لهذه الجموع الكبيرة، رغم كم الوفاء الكبير والتأييد المتعالي على الجراح الذي تبديه في كل مناسبةٍ قتاليةٍ وإن كانت انكفائية.
ليست قراءةً تشاؤميةً بل هذا هو الواقع الذي لا بد أن ننطلق منه، ولا أرى مخرجاً من خلال مجموعاتٍ أو تجمعاتٍ قليلة ربما يلقى باللوم عليها وتعاقب حتى شعبياً إن عملت على التحرك المنفرد باتجاه العدو أو ضد مرابط الاحتواء والتقييد، والعواقب قد تكون تضييعاً لشبابٍ متحمسٍ، وجهود غالية وربما لفرصة لاحقة لا تعوض، وبالتأكيد ستتأثر وتُعوَّقُ فكرة التحرر التي تدور في خَلَدِ أهل الرباط في الشام.
وليس تنظيراً لحالة من الفشل، بل هو تنبيهٌ لبعض ما يجب فعله، وهو أساس الانطلاق لاستعادة الثورة والجهاد، ما يحقق النفع العام لكل مكوناتها ولأصدقائها ومنهم تركيا، لكن ليس بالطريقة التي تراها بل بطريقةٍ ونتيجةٍ أفضل وأدوم، وبرضا وحرض أصحاب الأرض والجهاد.
لو كان مجاهدو الشام تحت قيادةٍ واحدةٍ عاملة لمصلحة الدين والمسلمين لكانت فرصة الحرب الروسية على أوكرانيا فرصة عظيمة يجب المسارعة إلى اغتنامها، لكن لا قيادةً موحدةً، ومعظم القيادات الحالية ذات مصالح ضيقةٍ وتحالفاتٍ واهيةٍ وتشكيلاتٍ متشظيةٍ، والشعب المسلم الثائر المجاهد يقرأ هذا الواقع لكنه لا يهتدي إلى مخرجٍ منه، وإن توريطه في مواجهة غير معدٍّ لها مع العدو أو مع السلطات المتحكمة كمرابط احتواء قد يأتي بنتائج سلبيةٍ، هناك تجارب سابقةٌ تنذر بنتائج مماثلةٍ أو مشابهةٍ.
الفصائل التي لا تتزيا بالجهادية وتلك التي اهترأ زيها، تدعي الإعداد والجاهزية، وهذا غير ملموسٍ، والحالة الإدارية والشعبية تكذبه، غير الحالة العسكرية الانهزامية منذ ست سنوات إلى الآن، أما الإعداد الشعبي العام فغير موجود وذلك بسبب غياب المرجعية والمقدَّمين والرُّوادِ المأمونين، الذين يهتدي الناس بقولهم ويقتدون بفعلهم، وإن تقديم هؤلاء وإن رغماً عنهم هو أولى خطوات النجاح في بث الوعي والأمل والحض على العمل العام الذي يستطيع فرض الإصلاح واقتلاع الفاسدين الذين يرفضونه.
كانت المرحلة السابقة مرحلة قراءة واقعٍ وبيان حقٍّ وقولٌ فصلٌ في المكونات كلها، والمرحلة القادمة يجب أن تكون مرحلة دعوةٍ إلى تحركاتٍ جادةٍ أهمها التسلح والتدريب والتنظيم في مجموعاتٍ ثوريةٍ شعبيةٍ هدفها الإغارة على العدو المجرم في وقته، إما بالتوازي مع تحرك الفصائل المأمورة أو بمعزلٍ عنه إن وجدت الكفاية والاستطاعة، مجموعاتٍ منتشرةٍ تربط أفرادها ببعضهم رابطةٌ قويةٌ تكون مرجعيتهم واحدةٌ تقول ما قال الله وقال الرسول صلى الله عليه وسلم، فعامة أهل الشام ومن هاجر إليهم يجمعهم هذا الخطاب إن كان صادقاً.
وما تبثه المرجعية الموثوقة من خطابٍ توعويٍ تنطيميٍّ يجب أن يؤدي إلى مواجهة مع سلطات الأمر الواقع بأدوات سلميةٍ تدريجيةٍ تفرض عليها الأمر العام بدلاً من الرضوخ لها ولأمرها، إن وجدت المرجعية هذه ولو رغماً عنها وبتكليف سيتطور النشاط الشعبي بالتأكيد ويكون له كلمته المنضبطة وتأثيره الكبير، وسيكون للكثير من العاملين مع هذه السلطات عودةٌ إلى الحق وإلى أهلهم، فهم منهم وإن رابطة معظم المرتبطين بهذه السلطات ضعيفةٌ مرجوحةٌ مغلوبةٌ إن وجد مغالب.
ولضمان وجود واستمرار ما سبق على منتسبي الأحزاب والتنظيمات أن يخففوا من نزعتهم وولاءاتهم الخاصة وأن ينحُّوا راياتهم لكي لا تتخذَ نزعتهم ذريعة استهدافٍ ولا محطَّ تعييرٍ أو تقزيمٍ ولا مدعاة تنفيرٍ من تحركٍ يجب أن يكون شعبياً عاماً لكي يستطيع التغيير، ولقد مضت عقودٌ ولم يثبت منتسبو هذه الاحزاب والتنظيمات أنهم يمثلون الأمة أو أن رايتهم هي الراية الجامعة، لهذا وجب تغليب المصلحة العامة والنزول تحت الأعم الأغلب، أو فإن التحرك باتجاه استعادة الثورة والجهاد يجب أن يكون بمعزلٍ عن كل متحزبٍ ومتعصبٍ، هذا وإن نصرتنا لكل مظلومٍ بغض النظر عن انتمائه ينبع من المسؤولية الدينية التي ينبع منها أيضاً بغض الحزبية والعصبية المُضلَّة أو المعطلة.
ما البديل؟!… هذا السؤال الذي يسأله من يرفض التغيير ليبقى متمسكاً ببعض الإنجازات المادية التي تنهار مع حشودات العدو وتقدمه، لتنتقل إلى مكانٍ آخر أضيق، أو ليستولي العدو عليها بما فيها!، إنها إنجازاتٌ هامشيةٌ تزيينيةٌ، أما الأساس فقد ظهر للقريب والبعيد مدى متانته في مساحاتٍ واسعةٍ استطاع العدو احتلالها وتهجير أهلها، إن هذه السلطات المصلحية لا تملك قلوب أهل الشام، ولم تنجح في الدفاع بهم ولا عنهم، وإن البديل هم أهل الشام أنفسهم، لكن بعد أن يستعيدوا الزمام من اللئام، فقد جرت السنة في البشر جميعهم أن الإنسان يقاتل ليدافع عما يملك، ومن يشعر أنه لا يملك شيئاً من وطنه يجد في نفسه ما يمنعه من الدفاع عنه، ومن يجاهد ديناً يحبط عندما يرى دينه الذي يدافع عنه بنفسه وماله يفسد أمامه ولا يستطيع أن يصلحه بقول أو فعل، وليس الناس في الصبر سواء، فلذلك وجب الإصلاح من الداخل انطلاقاً إلى الخارج، وإن أهل الشام خير بديل، وهم أهل الصلاح والإصلاح.
إن تحركاً كهذا وتقديماً لأهله من الثقات الصادقين يلزمه دعوةٌ واضحةٌ لا لبس فيها، تحدد الهدف منذ البداية وهو الإصلاح، إن تم بالموجود فقد تم، أو بالتغيير الجذري بعد العمل مدة يحصل فيها الإعداد والإعذار، وفي هذا المخاض على من يجد سعةً أن يحمل من لا يجد، وعلى المستطيع أن يقدم لمن لا يستطيع، فالأقوال تكون بغير مؤونةٍ، أما الأفعال فلا بد لها من مالٍ ورجالٍ.
وهنا في معرض الحديث عن الحرب في أوكرانيا لا بد من الإفادة من الدروس والعبر التي لا تظهر لأول مرة بل تتكرر في هذه المواجهة كما ظهرت وتكررت على مر التاريخ، إن مسارعة الغرب إلى دعم أوكرانيا ومعاقبة روسيا ليس أمراً عجباً ولا تحيزاً مذموماً، إلا إن صدقنا ببلاهةٍ الشعارات الأممية المعلنة!، إن الشام عقر دار الإسلام وهم في حرب معه ربما تهدأ أو تتوقف إذا بدأت الحرب العالمية بين الغرب النصراني والشرق الملحد وحربهم حرب سيطرةٍ لا حرباً دينيةً، وإن لأوكرانيا موقعاً هاماً يجبر هذه الدول على التدخل لحماية أمنها، ربما يذكر القارئ أنهم لم ينصروا جورجيا النصرانية أيضاً لأن موقعها ليس بهذه الأهمية لهم.
لقد أثبت الشعب الأوكراني ما هو ثابت تاريخياً أن مدافعة المحتل ومنعه من احتلال البلاد على الأقل بغير حسابٍ وكلفةٍ باهظةٍ ليس حكراً على المسلمين، بل ربما تبرد همة المسلمين القتالية لأسباب منها الفساد المستطير وتغليب المصالح الحزبية التي نراها في الشام اليوم، وتتقد همة المشركين الذين التفوا حول قيادة وحول عقيدةٍ قتاليةٍ جامعةٍ، ولا يتعلق الأمر بالدعم الدولي فقط.
إن النظرة العاطفية القاسية أو اللينة إلى الأحداث غير صحيحةٍ وإن وافقت الصواب أحياناً، طالما أنها ليست طريقة علمٍ وحلمٍ واجتهادٍ بل العكس، فالمسلم الحق يرى بنور الشريعة ويسير على هدي السنة، ويتجه باتجاه مصلحة الإسلام والمسلمين، على عكس أهل الأهواء والمصالح التي هي أدنى، وإن الخطاب الواقعي الذي ليس فيه تضخيمٌ وتزييفٌ وتغنٍّ هو المطلوب لمعرفة الحجم الحقيقي للذات الشخصية والعامة والعمل على بنائها وإصلاحها، وإن أحد أهم أسباب المشكلة الساكتون عن الحق وبائعو الوهم وأصحاب الكلمات الرنانة والمجاملات التخديرية، يظهر عوارها وخسارها في كل مناسبةٍ فيصمتون قليلاً ثم يعودون إلى تجديدها كحال من يعلق على مباراةٍ رياضيةٍ، ويستمر الحال وتستمر المأساة ولا تغيير.
إننا مدعوون جميعاً إلى تحركٍ عامٍّ للخروج من حالة التعطيل هذه، ليس لنستفيد من الفرص السانحة، بل لنصنع لأنفسنا الفرص وهذا ممكن إن تحققت الأسباب، على كل عاملٍ أن يعمل في مكانه مع أقرب الناس إليه، لكن بالتمسك بالثوابت والمرجعية الجامعة، ثم إذا أتى الوقت المناسب ذو الظروف المناسبة ظهر الصدق وظهرت معادن الرجال.
{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود : 88].
هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٣٤ شعبان ١٤٤٣ هـ