الجماعة : مقال من الركن الدعوي لمجلة بلاغ العدد الخامس عشر لشهر محرم 1442هـ

الشيخ: أبو اليقظان محمد ناجي

 

 “الجماعة” لفظٌ متداولٌ منذ عصر النبوة الشريفة ومعروفٌ في القرون الثلاثة المفضلة؛ فهو مصطلحٌ شرعيٌ له مفهومُه المنضبط الذي يحمل اجتماعًا معنويًا علميًا واجتماعًا حسيًا حركيًا.

 ولله در الإمام عبد الله بن المبارك حيث يقول:

 على ملة الإسلام ليس لنا … اسم سواه بذاك الله سمّانا.

 إن “الجماعة” حبل الله فاعتصموا بها … هي العروة الوثقى لمن دانا.

 الله يدفع بالسلطان معضلة … عن ديننا رحمة منه ورضوانا.

 لولا الأئمة لم يأمن لنا سبل … وكان أضعفنا نهبا لأقوانا.

 يقول الشاطبي رحمه الله بعد أن ذكر جملةً من الأحاديث المتضمنة لهذا اللفظ: “اختلف الناس في معنى الجماعة المرادة في هذه الأحاديث على خمسة أقوال: 

 

 أحدها: أنها السواد الأعظم من أهل الإسلام. 

 

 والثاني: أنها جماعة أئمة العلماء المجتهدين. 

 

 والثالث: أن الجماعة هي الصحابة على الخصوص، فإنهم الذين أقاموا عماد الدين وأرسوا أوتاده، وهم الذين لا يجتمعون على ضلالة أصلا، وقد يمكن فيمن سواهم ذلك.

 

 والرابع: أن الجماعة هي جماعة أهل الإسلام إذا أجمعوا على أمر.

 

 والخامس: ما اختاره الطبري الإمام من أن الجماعة جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير”. 

 

 ثم قال بعد أن نقل كلام الطبري رحمه الله: “وحاصله: أن الجماعة راجعة إلى الاجتماع على الإمام الموافق للكتاب والسنة وذلك ظاهر في أن الاجتماع على غير سنة خارج عن معنى الجماعة المذكور في الأحاديث المذكورة، كالخوارج ومن جرى مجراهم”. [الاعتصام للشاطبي – بتصرف].

 

 وخلاصةُ هذه الأقوال أنّ “الجماعة” هي اجتماعٌ منهجي على عقيدة صحيحة واجتماعٌ حركي في كيان سياسي؛ يقول الدكتور صلاح الصاوي: “والحقيقة أننا إذا تأملنا في مجموع هذه الأقوال استطعنا أن نردها جميعاً إلى معنيين اثنين هما: الاجتماع المنهجي العلمي على العقيدة الصحيحة والاجتماع الحسي العملي في صورة كيان سياسي إسلامي”. [الثوابت والمتغيرات في مسيرة العمل الإسلامي – د. صلاح الصاوي].

 

 قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: “فمعنى أهل الجماعة أهل الاجتماع لأنهم مجتمعون على السنة متآلفون فيها، لا يضلل بعضهم بعضاً ولا يبدع بعضهم بعضاً بخلاف أهل البدع”. [شرح العقيدة الواسطية – ابن عثيمين].

 

 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:”ولهذا سُموا أهل الكتاب والسنة وسُمّوا أهل الجماعة لأن الجماعة في الاجتماع وضدها الفرقة وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسماً لنفس القوم المجتمعين”. [العقيدة الواسطية – ابن تيمية].

 

 لقد كان المنهج العلمي الصحيح والكيان العملي الحركي متلازمين في عصر النبوة وفي عهد الخلافة الراشدة؛ يقول الدكتور وسيم فتح الله: “الأصل أن يتطابق المنهج العلمي والعملي وأن يجتمعا في نفس الكيان الإسلامي، بمعنى أن يتمثل معنى الجماعة في كيان سياسي إسلامي يلتزم بالمنهج العلمي العقدي الإسلامي وهذا ما كان عليه الحال في زمن النبوة قطعاً لا حصراً، إذ أن هذا التطابق قد وُجد في زمن الخلافة الراشدة ثم أخذ الجانبان يفترقان شيئاً فشيئاً بعد انقضائها، ولا يزال الجانبان يفترقان ويقتربان على مر العصور بحسب ما تكون عليه حال الأمة والقيادة السياسية من علمٍ بعقيدتها والتزام بحراستها وتطبيقها. ” [لزوم الجماعة بين الغلاة والجفاة – د. وسيم فتح الله].

 

 ولينتبه القارئ الكريم أن المقصود ب”الجماعة” في الجانب السياسي العملي هو اجتماع الأمة على إمامٍ يحكمها بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويقوم فيها بحراسة الدين وسياسة الدنيا به، وعليه تُحمل النصوص النبوية المباركة كقوله صلى الله عليه وسلم: “من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه”. [صحيح، من حديث أبي ذر الغفاري: أخرجه أبو داود، وأحمد باختلاف يسير، وابن أبي عاصم في ((السنة)) واللفظ له]، وقوله صلى الله عليه وسلم: “من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية” [رواه مسلم من حديث أبي هريرة]، وقوله صلى الله عليه وسلم: “إنه ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع، فاضربوه بالسيف كائنا من كان” [رواه مسلم من حديث عرفجة بن شريح الأشجعي]، وهي الجماعة المقصودة بالبيعة العامة كما في قوله صلى الله عليه وسلم: “من خلع يدا من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية” [رواه مسلم من حديث ابن عمر]. 

 

 فلا يجوز إسقاط هذه الأحاديث على تجمعات أو تنظيمات أو فصائل إسلامية بذاتها، ولا يصح حمل هذه النصوص على بيعات لقادة وأمراء تلك التنظيمات. يقول الدكتور وسيم فتح الله: “وإن من الغلو المشاهد في واقعنا الإسلامي المعاصر قيام القائمين على بعض التجمعات الحركية من تنظيمات وأحزاب وحركات إسلامية بإسقاط النصوص والثوابت الشرعية المتعلقة بالاجتماع الحسي للأمة على الإمام الأعظم على تجمعاتهم وأحزابهم هذه ليوهموا عامة المسلمين بأن التزام جماعاتهم وتجمعاتهم العضوية هذه أمر ملزم لا يسع المسلمين الخروج عنه، وأن من شذ عن هذه الجماعة أو تلك يعرض نفسه لنصوص الوعيد لمن فارق الجماعة”. [لزوم الجماعة بين الغلاة والجفاة – د. وسيم فتح الله].

 

 

 وقد حمل حبُ طلبِ زيادة الأتباع وتعصبِهم لتلك التنظيمات قادتَها ومنظريها إلى الغلو في الولاء والبراء بناءً على تلك المسميات فيحلو لبعضهم أن يُطلق على تنظيمه اسم “الجماعة” ويتعمدون ذكر لفظ “الجماعة” وتكراره على ألسنة الأتباع فيوالون ويعادون عليه. والله عز وجل يقول: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} [الحج: 78].

 

 وصدق فيهم قول أبي بكر ابن شهاب الدين:

 

 ركبت لحبّهم صعب المطايا ** وجلت مع “الجماعة” حيث جالوا.

 صديقي من يصادقهم وبغضبي ** عدوهم عتيد لا يزال.

 نأيت عن الأقارب في رضاهم ** ودنت بما به دانوا ودالوا.

 وقربت القصي ولا أبالي ** إذا هم بامرئ ما لم يبالوا.

 

 يقول الغزالي رحمه الله: “ولكن لما كان الجاه لا يقوم إلا بالاستتباع، ولا يستميل الأتباع مثل التعصب واللعن والشتم للخصوم اتخذوا التعصب عادتهم وآلتهم وسموه ذباً عن الدين ونضالاً عن المسلمين وفيه على التحقيق هلاك الخلق ورسوخ البدعة في النفوس”. [إحياء علوم الدين – أبو حامد محمد بن محمد الغزالي].

 

 بل يكثر في بعض تلك التنظيمات آفة ربط الحق بالأشخاص من مؤسسيها وقادتها ولسان حالهم:

 الحقُّ أنتَ والحقُّ ما قلتَ … ولو جمعْتَ الرأيَ والضدَّ.

 ومهما وحيث وأينما كنت … لمالَ الحقُّ حيثما مِلْتَ.

 

 قال شيخ الإسلام رحمه الله: “وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصاً يدعو إلى طريقته، ويوالي عليها ويعادي غير النبي صلى الله عليه وسلم وما اجتمعت عليه الأمة، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصاً أو كلاماً يفرقون به بين الأمة، يوالون على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون”. [درء تعارض العقل والنقل – تقي الدين أبو العباس ابن تيمية].

 

 ويقول الشيخ الطريفي: “وفي هذا إشارة إلى قضية مهمة، وهي تتعلق بحملة الحق الذين يكونون في آخر الزمان، وهي أن التقلب يطرأ عليهم أكثر من غيرهم، كذلك المهمة عند حملة الحق، ينبغي أن يفصلوا بين ذواتهم وبين الحق الذي يحملوه، وكثير من الناس يحاول أن يجعل الحق متعلق بذاته”. [اعرف الحق تعرف أهله – عبد العزيز بن مرزوق الطّريفي].

 

 تلكمُ المظلة السياسية الإسلامية التي تلتزم المنهجَ العلمي على العقيدة الصحيحة انهار ما بقي من بنيانها مع سقوط الخلافة العثمانية في مطلع القرن العشرين وشغر الزمان عن إمامٍ جُنّة يحتمي به المسلمون، ففزع العلماء والمصلحون إلى القيام بفروض الكفايات عن طريق تكتلات وتنظيمات شتى كلٌ حسب طاقاته وإمكاناته.

 

 يقول الإمام الجويني رحمه الله: “وقد قال بعض العلماء: لو خلا الزمان عن السلطان فحق على قطان كل بلدة، وسكان كل قرية، أن يقدموا من ذوي الأحلام والنهى، وذوي العقول والحجا من يلتزمون امتثال إشاراته وأوامره، وينتهون عن مناهيه ومزاجره؛ فإنهم لو لم يفعلوا ذلك، ترددوا عند إلمام المهمات، وتبلدوا عند إظلال الواقعات” [الغياثي؛ غياث الأمم في التياث الظلم – الإمام أبو المعالي الجويني].

لقد أمسى وجود هذه التنظيمات التي تلتزم المنهج العلمي الصحيح ضرورةً للقيام بفروض الكفايات وللدفاع عن بيضة الإسلام وحفظ ثوابته، وقد حبا الله هذه التنظيمات على اختلاف مشاربها بأن أكرم كثيرا منها بسد ثغور مهمة للأمة الإسلامية؛ فمن هذه التنظيمات من اهتم بنشر العلم الشرعي والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنها من اعتنى بنشر الإسلام ودعوة غير المسلمين، ومنها من كرّس جهده لنصرة المستضعفين والمضطهدين وكفايتهم في إفريقيا وشرق آسيا وغيرها من دول العالم، ومنها من تفرغ لدفع العدو الصائل عن بلاد المسلمين في أفغانستان وفلسطين والصومال وسوريا وغيرها، إلى غير ذلك من مجالات العمل الإسلامي.

 

 ورغم نجاح أغلب هذه التنظيمات وخدماتها الجليلة التي قدمتها للأمة الإسلامية فلا يحق لأي تنظيم منها أن يحتكر اسم “الجماعة” ولا يصح لأي تنظيم منها أن يدعي الإمامة العظمى التي لا يجوز الخروج عنها.

 حريٌ بهذه التنظيمات العاملة للإسلام أن تَعضَّ بالنواجذ على السنة وتناصر أهلها، وأن تتعاون فيما بينها لإعادة كيان “الجماعة” الحسي العملي من خلال الحفاظ على المنهج العلمي العقدي الصحيح؛ جمعًا بين حديثيّ حذيفة والعرباض رضي الله عنهما؛ وفيهما قول النبي صلى الله عليه وسلم لحذيفة رضي الله عنه: “تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك” [رواه البخاري ومسلم من حديث حذيفة]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض: ” فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة”. [صحيح من حديث العرباض بن سارية: أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وأحمد باختلاف يسير].

 يقول خليل العبيدي: “هذا أمر بلزوم الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح، يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه: ((من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، وإياكم ومحدثات الأمور، فإنها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين، عضوا عليها بالنواجذ)). ففي حديث حذيفة أمره أن يعض على أصل شجرة عند الاختلاف معتزلاً فرق الضلالة. وفي حديث العرباض: أمره أن يعض على السنة النبوية، بفهم الصحابة بالنواجذ عند الاختلاف، وأن يبتعد عن المحدثات فإنها ضلالة. فإذا جمعنا بين الحديثين ظهر معنى رائق، وهو: التزام السنة النبوية بفهم السلف الصالح رضوان الله عليهم عند ظهور فرق الضلالة، وغياب جماعة المسلمين وإمامها. يدلك على ذلك أن الأمر بأن يعض على أصل شجرة في حديث حذيفة ليس ظاهره المراد، وإنما معناه: الثبات على الحق، واعتزال فرق الضلالة التي جانبت الحق”. [الفوائد العشر من حديث حذيفة كان الناس يسألون رسول الله عن الخير وكنت أسأله عن الشر – خليل بن إبراهيم العبيدي العراقي].

 

 ومن جملة العض بالنواجذ على السنة الالتزام بالضوابط الشرعية في أبجديات هذه التنظيمات ولوائحها الداخلية؛ من تفعيل الشورى {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، والرجوع لأهل العلم واحترامهم {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، والتراحم والتواد مع جميع المسلمين {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة : 71]، وعدم زرع بذور التعصب للتنظيم {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]، بل يجب نشر روح التعاون مع التنظيمات الأخرى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، وتربية أبناء التنظيم على أنهم جزء من الأمة الإسلامية وليسوا هم جماعة المسلمين.

 

 فلنكن لبنةً؛ فرادى وتنظيمات، في بناء “جماعة” الأمة ((ثم تكون خلافة على منهاج نبوة، ثم سكت)) صلى الله عليه وسلم، قال جل وعلا: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]. ولن يخلو زمانٌ من طائفة بالحق قائمين وبالكتاب والسنة معتصمين ولدين الله ناصرين، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، {وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78]، وصدق الحبيب صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك» [رواه مسلم من حديث ثوبان].

 

Exit mobile version