د. أبو عبد الله الشامي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فإن لله سننًا كونيةً قدريةً وشرعيةً لا تحابي أحدًا قال تعالى: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43] ومن هذه السنن عقوبة التيه التي ضربها الله على بني إسرائيل لما ردوا أمره لهم بالجهاد ودخول بيت المقدس، قال تعالى في محكم تنزيله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْم اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ * يَا قَوْم ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:20-26] يقول السعدي رحمه الله في تفسيره: {يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} فما أشنع هذا الكلام منهم، ومواجهتهم لنبيهم في هذا المقام الحرج الضيق، الذي قد دعت الحاجة والضرورة إلى نصرة نبيهم، وإعزاز أنفسهم، وبهذا وأمثاله يظهر التفاوت بين سائر الأمم، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم -حين شاورهم في القتال يوم “بدر” مع أنه لم يحتم عليهم: يا رسول الله، لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك، ولو بلغت بنا برك الغماد ما تخلف عنك أحد، ولا نقول كما قال قوم موسى لموسى: {اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، من بين يديك ومن خلفك، وعن يمينك وعن يسارك” انتهى كلامه رحمه الله ومن خلاله تتضح حقيقة الفارق بين جيلين:
1- جيل التيه الممثل ببني إسرائيل الذين ردوا أمر الله ورسوله ونكلوا عن الجهاد ومقارعة الأعداء فعاقبهم الله بالتيه أربعين سنة.
2- جيل التمكين الممثل بالصحابة الذين استجابوا لأمر الله ورسوله بالجهاد ومقارعة الأعداء ففتح الله على أيديهم قلوب العباد والبلاد وتمكنوا خلال أربعين سنة من إنهاء حضارة الفرس المجوسية وغالب حضارة البيزنطيين الصليبية.
وأمام هذا من الجيد معرفة أن الواقع الحالي لثورتنا الشامية وجهادها المبارك وتضحياتها الجسام يشير إلى أن عقوق أبنائها ونكولهم عن الجهاد وركونهم للدنيا والأعداء وتفاهماتهم يسير بها في عقوبة التيه لا نعمة التمكين -أسأل الله أن يتداركنا برحمته وفضله- وفيما يأتي بإذن الله معالم التشابه مع جيل التيه؛ فأقول وبالله التوفيق:
1- التحرر من استعباد الطواغيت: فكما مَنَّ الله على بني إسرائيل بالتحرر من استعباد فرعون {وَإِذْ أَنجَيْنَٰكُم مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوٓءَ ٱلْعَذَابِ ۖ يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ ۚ وَفِى ذَٰلِكُم بَلَآءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} [إبراهيم:6] مَنَّ الله على أبناء الثورة بالتحرر من استعباد عصابة البعث المجرمة وعائلة الأسد الخبيثة التي تحكمت بالبلاد خمسين سنة أفسدت فيه البلاد وأذاقت فيها العباد ألوان العذاب والتنكيل.
2- العقلية الجبرية التي تحن للذل والاستعباد وتمارس لوازمها {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138] {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة:93] وهذا عين ما ابتليت به الثورة حيث التبعية للخارج وممارسات حكم تحاكي نماذج الحكم الجبرية الشمولية على الأصعدة كافة.
3- رد أوامر الله ورسوله وترك الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: قال تعالى: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] وقال تعالى: {فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:153] وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة:78] وهذا عين ما ابتليت به الثورة أيضًا حيث يسود عدم التحاكم لشرع الله ويستبدل بقضاء وضعي أو قضاء مسيس وتنحرف البوصلة فيركن للدنيا والأعداء وتفاهماتهم وتترك فريضة الجهاد وفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويحارب القائمين والمطالبين بهما ويضيق عليهم.
4- الآيات والتربية الإيمانية والجهادية: من الحكم التي ظهرت في زمن التيه لبني إسرائيل الرحمة بهم وانقراض جيل التيه وتربية الجيل الجديد الذي يراد له التمكين على التعلق بالله وحده والثبات على المبادئ والقوة في الحق ولذلك مع الضياع وشظف العيش وشدته في التيه كانت آيات الغمام والحجر والمن والسلوى وغيرها ومن يتأمل مراحل الثورة يجد لطف الله وإكرامه في جميع المراحل رغم شدة تآمر الأعداء وعقوق الأبناء وحالة الركون السائدة ولعل في الحرب الأوكرانية ومحاولات التطبيع البائسة التي ساهمت في التعرية والدفع لاستعادة شعار الثورة الصادق يا الله مالنا غيرك يا الله ما يفي للتمثيل في هذا المقام.
أخيرًا؛ فالعاقبة والتمكين يكتبها الله للمتقين طال الزمن أم قصر على يد جيل التمكين ابتداءً كما في نموذج الصحابة رضوان الله عليهم ومن سار على نهجهم أو على يد جيل التمكين الذي يعقب جيل التيه كما حصل مع بني اسرائيل بقيادة يوشع بن نون عليه السلام، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55]
فالله أسأل لمستضعفي الشام خاصةً وبلدان المسلمين عامةً أن يبرم لهم في القريب العاجل أمر رشد يعز فيه أولياؤه ويذل فيه أعداؤه والحمد لله رب العالمين.