الأستاذ: الزبير أبو معاذ الفلسطيني
إنّ المتابِعَ للشأن السياسي الفلسطيني لَيَقِفُ عاجزا عن فهم العقلية الفلسطينية في تناول مجريات الأحداث السياسية، ذلك أنه لم تمر في التاريخ المعاصر -فيما أعلم- خيانة بحجم خيانة حركة فتح العلمانية الفلسطينية، خيانة سافرة بكل المقاييس الشرعية والسياسية وحتى “الوطنية”، فهذه الحركة خانت دينها وجعلته خلْفَها ظِهرِيّا؛ منذ انطلاقتها قبل حوالي 60 عاما، ورفضت الاحتكام لشريعة الإسلام في نُظُمِها الداخلية وسياساتها الخارجية؛ المحلية والدولية، وذلك على الرغم من أنّ الشعب الفلسطيني شعب مسلم، والمعركة مع اليهود عقائدية بالدرجة الأولى، فاليهود ينطلقون من منطلقات عقائدية صرفة لا يخجل قادتهم من التصريح بها، بل حتى في مفاوضاتهم الهزلية مع حركة فتح وسلطتها يشترطون الاعتراف بيهودية دولتهم، وإلى الآن لا يوجد دستور لدولة اليهود؛ لأنهم يعتبرون التوراة المحرفة دستورهم الذي ينطلقون منه، وأمام هذه العقلية العقائدية التي يجب أن تُواجَه بثباتِ المسلمين على عقيدتهم ودينهم الحق إلا أن حركة فتح منذ انطلاقتها ترفض مرجعية الشريعة الإسلامية رفضا تاما، وتستبدلها بالشرعية الدولية وقرارات الأمم الملحدة المتحدة؛ التي تعتبرها منطلقها ومرجعها الوحيد.
وعلى المستوى السياسي ذهبت هذه الحركة بعيدا جدا في تفريطها، حين دخلت نفق التنازلات ولم تخرج منه، فبعد أن كانت ترفع شعار “الكفاح المسلح” وتحرير فلسطين “من النهر إلى البحر” -وإن كان بمنهجٍ علماني صرف- إلا أنها قَبِلَت بعد اتفاق أوسلو المشؤوم بأن تشطب هذه البنود من ميثاق “منظمة التحرير الفلسطينية”؛ عبر المجلس الوطني التابع للمنظمة والتي تسيطر عليها حركة فتح سيطرة كاملة، لتستمر في الخيانة والتفريط؛ إلى أن أصبحت سُلطتُها الحاكمة في الضفة الغربية عبارة عن جهازٍ أمني من الأجهزة الأمنية التابعة لدولة الاحتلال اليهودي، وبلدية لتسيير أعمال المحتل؛ دورُها أن تنوب عنه في الإدارة المدنية لشؤون الأراضي المحتلة في الضفة الغربية.
وحتى على مستوى الفكر “الوطني” كانت هذه الحركة خنجرا مسموما في ظهور أصحاب الأرض والقضية، فلقد باعت حركةُ فتح فلسطينَ في عهد الهالك ياسر عرفات بداية التسعينيات من القرن الماضي؛ في اتفاق أوسلو الخياني، وقَبِلَت بالاعتراف بدولة اليهود وأحقيتها على أربعة أخماس فلسطين؛ تحديدا 78% منها، وجَزَّأت مطالبَها على مراحل للوصول إلى ما يسمى بمرحلة “الحل النهائي” على أساس ما يسمى “حل الدولتين”؛ بما يقتضيه مِن إقرارٍ واعترافٍ كاملٍ بدولة اليهود “إسرائيل”، إلا أن اليهود استطاعوا مع مرور الوقت تجاوز كل بنود الاتفاقية الخاصة بالطرف “الفلسطيني”، مما جعل اتفاق أوسلو -الذي لا زالت حركة فتح متمسكة به- عبارة عن حقوقٍ خاصة باليهود تحصلوا عليها كاملة، في حين تنصلوا من كل ما تعهدوا بتنفيذه للطرف الآخر، اللهم إلا بقاء السلطة الفلسطينية التي تُعتبرُ المكسبَ الأبرز لليهود من هذا الاتفاق، حيث جعلوا “الثوار” عبارة عن حرسِ حدودٍ لدولتهم؛ وتحت حمايتهم ودعمهم، وبعد أن كانت كتائبُ “الثورة” الفلسطينية منتشرة في البلاد العربية ودول الطوق حول دولة اليهود وتتبنى خيار “الكفاح المسلح” وتحرير فلسطين “من النهر إلى البحر” قامت دولةُ اليهود بنزع هذه المفاهيم “الثورية” وحَشَرَت هؤلاء “الثوار” داخل “كانتونات” في وطنهم المحتل، وجعلتهم بيادق تحركهم بمالها وأوامرها ضد كل من يفكر في “مقاومة” الاحتلال، في أبشع صورة من صور الخيانة؛ والتي باتت تسمى “التنسيق الأمني”، بل ويصفُه كبيرُ العلمانيين الفلسطينيين ومهندس بيع فلسطين الطاغوتُ محمود عباس بأنه تنسيقٌ أمني “مقدس” بالنسبة له ولحركته وسلطته الفلسطينية اسما؛ والصهيونية جوهرا وعملا.
وعودا إلى العقلية الفلسطينية فإن المرء يعجز عن فهم طبيعة المسخ الفكري الذي حل بالشأن السياسي الفلسطيني، حيث إن القضية الفلسطينية صُبِغَت منذ عقودٍ بالصبغة الوطنية، وابتعدت عن البعد العقائدي الإسلامي الذي هو أصل قضية احتلال فلسطين، ورَضِيَت كُلُّ التنظيمات والأحزاب والحركات الفلسطينية بهذه الصبغة الوطنية التي تتصادم في حقيقتها مع العقيدة الإسلامية، اللهم إلا الجماعات الجهادية التي ظهرت بقوة على خط الأحداث فترةً من الزمن؛ وأحدثت شرخا في الطرح الوطني للقضية، وتَبَنَّت البعد العقائدي لقضية قتال اليهود في فلسطين، ثم وبسبب العمل من خلال قراءةٍ خاطئةٍ للواقع توارت هذه الجماعات عن المشهد، وكان ظهورُ تنظيمِ الدولة أحد أبرز أسباب التراجع، حيث تسبب في انقسام الصفوف واجتيال الشباب المسلم نحو مشروعه الفاسد فكريا وسياسيا، ولربما يكون لنا في تناول حقبة الجماعات الجهادية موضعٌ آخر إن أراد الله، وبخصوص التنظيمات والأحزاب الفلسطينية فلقد كانت ولا زالت تتبنى قضية الصراع مع اليهود من خلال الفكر الوطني، ولو تجاوزنا عن تصادم هذا الفكر المنحرف مع الإسلام عقيدةً وشريعةً؛ فإنه من المفترض أن تَكُونَ الأرضُ بالنسبة للأحزاب الفلسطينية قضيةً مقدَّسةً كما يعلنون، ومع ذلك لا زالت هذه الأحزاب جميعا تتعامل مع حركة فتح على أساس أنها جزء من “النسيج الوطني” وتعطيها الحقَّ في حُكمِ المسلمين في فلسطين، والحقَّ في طَرحِ سياساتِها كجزء من المشهد السياسي الفلسطيني، وكأن قضيةَ “قدسية الأرض” مجردُ شعارٍ ترفعه هذه الأحزاب ولا حَظَّ له في واقعهم السياسي، أو أن رابطةَ الوطن كانت أعلى قدسيةً مِنَ الوطنِ نَفْسِه!
أما على مستوى الشعب الفلسطيني فلقد انعكس التناقض الفج الذي تمارسه الأحزاب؛ على جماهيرِها، فحركة فتح صَنَعَت من الخائن الهالك ياسر عرفات رمزا “وطنيا” يَحتفِلُ به ويحتفي بذكراه سوادٌ عظيمٌ من الفلسطينيين كل عام، ويرفعون صوره ويمجدون “وطنيَّتَه”، وهو أكبر أكذوبة في تاريخ الصراع الفلسطيني مع اليهود، فهو الذي باع فلسطين لليهود بداية التسعينات، وهو الذي قاد مَسْخَ القضيةِ ونَقَلَها مع أقرانِه إلى علمانيةٍ صرفةٍ لا مَحَلَّ للإسلام فيها، كما أَعلَن الهالكُ “صلاح خلف” أحد مؤسسي حركة فتح في كتابه “فلسطيني بلا هوية” حيث قال: (حركة فتح انطلاقتها علمانية، ورصاصتها علمانية، وتسعى إلى دولة ديمقراطية علمانية)، وياسر عرفات هو الذي تَزَعَّمَ السلطةَ الفلسطينية بعد اتفاق أوسلو اللعين وقادها بغير ما أنزل الله حُكمًا وسياسةً، وهو الذي نَصَّبَ أزلامَ الخيانةِ؛ الذين أكملوا مسيرةَ الخيانة بعد هلاكه إلى الآن باسم “التنسيق الأمني”، ورغم كل ذلك فإنه من الصعب داخل فلسطين أن يقترب أحد من صنمية هذا الطاغوت التي صَنَعَتها له حركةُ فتح وبقيةُ الفصائل الفلسطينية، ومن يأتي على انتقادِ هذا الهالك وخيانتِه تلميحا أو تصريحا فإنه يصبح منبوذا بين الناس وقد يُتَّهَم بالخيانة العظمى!
ومِن صُوَر هذا التناقض الذي لا تَخطِئُه عَين مراقِبٍ أن سوادا عظيما من الشعب الفلسطيني يَبرَؤون مِن أيِّ جاسوسٍ صغيرٍ يُفتَضَحُ أمرُه، فاليهود غالبا ما يَستغلون الفقر والعوز الذي تسببت به التنظيمات والأحزاب الفلسطينية بسياساتها؛ لِيُسقِطوا ضعاف النفوس في حبائل الخيانة، ولا يمكن أن تجد تعاطفا شعبيا مع أيِّ خائن يُفتَضَحُ أمرُه -لا سَتَرَهُم الله-، بل شِدَّةُ الهجران والنبذ لهؤلاء الجواسيس الصغار تطال حتى عوائلَهم الذين لا ذنب لهم ولا جريرة، فتلاحِقُ مَعَرَّةُ الخائن الأبناء والأحفاد، لكن من المفارقات المستهجنة أنه عندما تَكُونُ الخيانةُ والتعاملُ مع اليهود علنيا وعلى رؤوس الأشهاد وتمارسه “السلطة الفلسطينية” التي تتزعمها حركة فتح العلمانية فإنّ هذا لا يَجِدُ الازدراء والنبذ داخل الوعي الجمعي للجمهور الفلسطيني؛ مثلما يكُونُ حاضرا عند التعاطي مع الجواسيس الصغار، بل تتعامل الجماهير -في الغالب- مع خيانة حركة فتح على أساسِ أنها طَرحٌ سياسيّ كأيِّ أطروحةٍ سياسية، بل يتم التبرير لهذه الخيانة العلنية بالضعف والضيق والضرورة والاضطرار، وهذا لدى من يريد الحفاظ على ما تبقى من “وطنيته” المزعومة، أما الغالب خاصة جماهير حركة فتح -التي تتمتع بشعبية كبيرة غريبة- فإنّ ما تقوم به هذه الحركة من خيانة ممنهجة علنية يُعتبَرُ إنجازا “وطنيا” ونصرا سياسيا!
أما الأحزاب والفصائل الفلسطينية فهي لا تَنفَكُّ عن التغني بــ “وطنية” حركة فتح و “تاريخها النضالي”، وإنْ كانت مَوجَةُ النزاعِ الفصائليِّ في انحسارٍ يَتِمُّ تناسي الخيانات القائمة ثم العزف على وتر “الوحدة الوطنية” مع “أشقاء الوطن”، أما إنْ عادت مَوجَةُ النزاعِ الفصائليِّ إلى المد مرة أخرى فإنّ خيانةَ حركةِ فتح لا تعدو كَوْنَها في قاموس الفصائل سوى “خطيئةٍ سياسية”! وهكذا تَبقَى خيانةُ حركة فتح العلمانية بين مَدٍّ وجَزرٍ؛ كلما احتد النزاعُ الفصائليُّ ظَهَرَت التخطئةُ “السياسية” دُون استحضارٍ للبعد الشرعي في الخطاب، وإنْ هدأ النزاعُ الفصائليُّ تناسى الجميع الخيانة العظمى وطفت على سطح المشهد معزوفة الوحدة الوطنية!
وإنْ هلك أحد أزلام العلمانيين الخونة تقاطرت بيانات العزاء والبكاء والرثاء والثناء؛ فصائليا وشعبيا، كما حدث مؤخرا عندما هلك “صائب عريقات” أحد أبرز رموز الخيانة والتفريط، في مشهدٍ بئيسٍ لا تفسيرَ له سوى شدة التهافت الفكري في فهم حقيقة الصراع القائم، والتناقض الصارخ في التعاطي مع قضية الخيانة؛ ما بين خيانةِ الجواسيس الصغار والجواسيس الكبار!
ومما يزيد المشهد غرابةً هو التعاطي الشعبي والفصائلي مع ما يسمى قضية “التطبيع” مع دولة اليهود، فعلاوةً على أن مسمى “التطبيع” انبثق عن البعد القومي العربي والبعد الوطني الفلسطيني الذي يُرَسِّخُ مفهومَ الحدودِ التي فَرَّقَت المسلمين؛ وهو مصطلحٌ بَدِيلٌ لما يَتفرَّعُ من أحكامٍ شرعية عن عقيدة الولاء والبراء الإسلامية؛ علاوةً على ذلك إلا أنه حتى على مستوى الفكر الوطني فإن التعامل مع قضية “التطبيع” يَحمِل تناقضاتٍ شديدةَ التنافر، فعندما قامت بعض الأنظمة العربية الطاغوتية بإعلان “التطبيع” مع دولة اليهود مؤخرا؛ ثارت ثائرة الفصائل الفلسطينية والشعب الفلسطيني، فعلى مستوى الفصائل الفلسطينية بما فيها حركة فتح العلمانية أنكروا واستنكروا هذا “التطبيع” على الرغم مِن كَوْنِ الجميع يعلم أن هذا “التطبيع” انتقل فقط من الخفاء إلى العلانية ليس إلا، وفي المقابل فإن جميع الفصائل الفلسطينية تتعامل مع النظام المصري صاحب أول اتفاقية “تطبيع” مع دولة اليهود معاملةَ الجار المساند لقضيتهم -كما يسبغون عليه الأوصاف-، ويعطونه الحق في المشاركة والتدخل في الشأن السياسي الفلسطيني باعتباره أحد أهم الداعمين للحقوق الفلسطينية! هكذا تقول وتعلن الفصائل الفلسطينية، ناهيك عن التغاضي عن “التطبيع” التركي العسكري والاقتصادي والسياحي و”التطبيع” القَطَرِيّ السياسي والإعلامي والرياضي؛ بسبب الدعم المالي والمعنوي واللوجيستي لهذه الفصائل؛ على تفاوتٍ بين فصيلٍ وفصيل، إضافة إلى التغاضي عن “التطبيع” اللبناني من خلال اتفاق ترسيم الحدود البحرية مؤخرا، على الرغم من أن الشيعة الرافضة الذين يقودون الدولة العميقة في لبنان قد أشبعوا الفصائل في فلسطين جعجعةً دُون طحينٍ في تبني القضية الفلسطينية والحق الفلسطيني والوقوف في وجه “الصهاينة” باسم “حلف الممانعة”؛ والذي يُعتبَرُ النظامُ السوريُّ النُصَيريُّ جزءا منه، هذا النظام الذي أعلن مؤخرا أن “التطبيع” مع دولة اليهود لن يتم قبل عودة هضبة الجولان لأحضانه، في تَنَكُّرٍ حقيرٍ لقضية فلسطين التي يتاجر بها هذا النظام الطاغوتي مع ما يسمى بــ “حلف الممانعة”، وعلى مرأى ومسمع من الفصائل الفلسطينية دون أن يكون لها موقف واضح، بل أغلب الفصائل تسارع دائما إلى إعلان الاصطفاف ضمن هذا المحور المُتاجرِ بقضيةِ فلسطين تجارةً رخيصةً لأجل انتفاعِ مشروعِه القوميِّ الفارسيِّ وتَمَدُّدِه في المنطقة عبر الولوج من خلال هذه القضية؛ التي يَعتبِرُها الرافضةُ مَمَرَّ عبورٍ وثغرةً يَخترقون بها الأمة الإسلامية ليس إلا.
كُلُّ هذا التناقض الفج في التعاطي مع قضية “التطبيع” لم يقف عند حدود الفصائل الفلسطينية التي تستنكره عندما يَصِلُ إلى مرحلةِ إعلانِ اتّفاقٍ بخصوصه، في حين تتغاضى عن “التطبيع” الذي يمارسه “حلفاء وداعمو” القضية الفلسطينية بلا اتفاق؛ إنما تَعَدَّى هذا التناقضُ الفصائلَ إلى الكثيرِ مِنَ الشعبِ الفلسطيني، فالجميع يَرَى بَيعَ فلسطينَ مِن قِبَلِ حركةِ فتح العلمانية والعلاقات “التطبيعية” مع دولة اليهود على أعلى المستويات خطورةً وخيانةً؛ وهو المستوى الأمني، والذي عاد إلى العلن مرة أخرى قبل بضعة أيام؛ وبشكل رسمي، بعد أن تم الإعلان عن “تجميده” قبل عدة أشهر، والصحيح أنه لم يتوقف أبدا؛ لأن السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية لا معنى لوجودها دون هذه الخيانة العظمى التي تسمى “تنسيقا أمنيا”، فاليهود صَنعوا هذه السلطة لهذه الغاية تحديدا، فإن تجرأ العلمانيون عبيد اليهود على تجاوز هذه الغاية من وجودِهِم فإنّ اليهودَ لن يتأخروا عن إسقاط هذه السلطة؛ وإحلالِ بَدِيلٍ ينفعُهُم، أو يعودوا مرة أخرى للاحتلال المباشر وتولي الشؤون المدنية للضفة الغربية، وأزلام السلطة وحركة فتح يعلمون ذلك جيدا، وهم مستعدون للبقاء في ممارسة دورهم الخياني إلى أبعدِ مدًى في مقابل بقاء امتيازاتهم وتجاراتهم التي يعطيهِم إياها أسيادُهُم اليهود، وسيبقون يمارسون أفجر وأوقح أنواع التضليل بوصف خيانتِهِم وتطبيعِهِم مع دولة اليهود بالنصر السياسي والصمود الوطني! والغريب هو تَلَقِّى هذه الأوصاف بالقبول لدى قِطاعٍ عريضٍ مِنَ الفلسطينيين والدفاع عنها، بل وتخوين من يتصدى لها!
هذه الجماهير التي تؤلمها قضيةُ إخوانِهِم الأسرى في سجون اليهود؛ لَم تَرَ في إعلان عودة العلاقات بين حركة فتح وسلطتها مع دولة اليهود سوى النصر الموهوم الذي يتبجح به علمانيو حركة فتح، وتناست الجماهير أن حركة فتح لم تمارس أيَّ نوعٍ مِنَ “الضغوط السياسية” لتقايض اليهود في ملف الأسرى مثلا، أو وقف الاستيطان أو تجميده على الأقل في مقابل عودة العلاقات التطبيعية الطبيعية، بل كانت خطوةُ عودةِ العلاقات بين حركة فتح واليهود استجابةً مباشِرةً وسريعةً لرسالةٍ خَطِّيَّةٍ أرسلها اليهود لرئيس “السلطة الفلسطينية” محمود عباس، والذي يرأس أيضا اللجنة المركزية لحركة فتح ويرأس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير؛ وكأن أرحامَ نساء فلسطين قد عَقِمَت أنْ تَلِدَ مَن يستطيع قيادةَ المؤسسات السياسية! مجرَّدُ رسالةٍ خَطِّيَّةٍ جعلت العلمانيين يسارعون في الإعلان عن عودة المياه إلى مجاريها، ومِن شِدَّةِ احتقارِ اليهود لعبيدهم العلمانيين لم يرسلوا رسالتهم عبر مسؤول حكومي سياسي أو وزير سياسي فضلا عن رأس الحكومة؛ بل أرسلوها عبر ضابط يعمل في وزارة الدفاع اليهودية، ليؤكدوا لعبيدهم أنهم مجرد جنود يعملون لحفظ أمن دولة اليهود، وكان مضمونُ الرسالة عبارةٌ عن تأكيدٍ مقتضَبٍ أنّ دولةَ اليهودِ ملتزِمةٌ باتفاقياتها “الموقَّعة”! هكذا دُون ذِكرِ أيّ ضمانات أو تدخل أيّ وساطات أو تقديمِ أيّ خطوة عملية على الأرض تُثبِتُ صحةَ هذا الالتزام الذي لا يساوي على أرض الواقع ثمنَ الحِبرِ الذي كُتِبَ به! فسارع العلمانيون لقبول هذه الرسالة المهينة المقتضبة، في حين أنهم منذ 13 عاما لا زالوا يعقدون المؤتمرات واللقاءات ويديرون المفاوضات المباشرة وغير المباشرة عبر الوساطات الدولية ويبرمون الاتفاق تلو الاتفاق مع خصومهم في الحركات الفلسطينية الأخرى؛ دُون أيّ نتيجةٍ تُذكَر للتقدم فيما بات يسمى ملف “المصالحة الفلسطينية”!.
والحقيقةُ كما أسلفنا أنه لا يوجد انقطاعٌ في العلاقة الخيانية بين حركة فتح ودولة اليهود لكي يعلَنَ عن عودتِها، إنما هي مناورات سياسية ما بين إخفاء وإظهار، فلقد أعلنوا عن “تجميد” العلاقات في عهد رئيس أمريكا “ترامب” إبان حاجتِهِم إلى اتخاذ موقفٍ سياسي أمام عنجهية الأمريكان الجمهوريين وإصرارهم على تطبيق “صفقة القرن” التي ستكون “السلطة الفلسطينية” أول ضحاياها؛ بعد انتهاء دورِها وضم الضفة الغربية لدولة اليهود حسب بنود هذه الصفقة، فكانت حاجةُ فتح وسلطتها لمعارضة “صفقة القرن” حاجةٌ مصيريةٌ تتعلق بامتيازاتهم ووجودهم؛ وليس أسًى على فلسطين التي باعتها فتح بلا ثمن سوى البقاء على رأس سلطة تحت حكم اليهود، ثم لما لاح عهدُ الديمقراطيين بعد إعلان فوز “بايدن” سارعت حركة فتح إلى إرجاع علانية “التنسيق الأمني” المقدس بالنسبة لها، وقَبْل حتى أن يَترُكَ “ترامب” البيت الأسود! لكن الجماهير الفلسطينية التي تهلل لهذا “الانتصار التاريخي” الذي حققته حركة فتح لَم تَرَ أن الأسرى -على الأقل- خارجَ كل حسابات هذا “الانتصار”، وأن حركة فتح لم تحاول ولو محاوَلةً مخادِعةً لتقايض في ملف الأسرى الذين تجاوز عددهم خمسة آلاف أسير أغلبهم من المنتمين تنظيميا لفتح، وبعضهم تجاوز أربعين عاما داخل سجون اليهود، ناهيك عن بقية ملفات الصراع كالاستيطان والتهويد والخطوات المتسارعة لضم الضفة الغربية، مما يؤكد لكل مَن يَحمِلُ عقلا أن حركة فتح العلمانية لا تود أن تنهي أي ملف من ملفات الصراع القائم، خاصة ملف الأسرى، وذلك لإدامة الحالة الراهنة؛ والتي تَحفظ امتيازات ورواتب هذه الحركة الخائنة وسلطتها الصهيونية بمسمى فلسطيني.
وأمام هذا التضارب والتنافر والتضاد والتناقض في الوعي الجمعي للمسلمين في فلسطين على المستوى السياسي والشعبي والذي يَحبِسُ نَصْرَ الله ويؤخره؛ فإنه يجب على كل قادرٍ على التغيير بأي صورة أن يعمل على تصحيح المفاهيم والسباحة عكس التيار، وجَعْلِ المعركةَ الأُولَى والأَوْلَى معركة الوعي قبل معركةِ السلاح؛ التي لا قيمةَ لها بعيدا عن الإسلام وأحكامه وشريعته.
- ومن الضرورة بمكان -قبل الختام- التوضيحُ أنّ الحديثَ السابق كان عن الذي يطفو على السطح ويسيطرُ على المشهد، فعندما أَذْكُرُ الغالبيةَ أو السواد الأعظم من الفلسطينيين فإنما أعني مَن تَصَدَّرَ المشهدَ السياسي والشعبي، فالشعب الفلسطيني المسلم في داخله خيرٌ كبيرٌ كثير، وفيه من أهل الخير والصدق النماذجُ المُشرِقَةُ والمُشرِّفةُ؛ سابقا وحاليا ولاحقا بإذن الله، أما الحديث في هذا الموطن فقد كان لرصد ما علا المشهد وتَصَدَّرَه، ونحسن الظن بالله أنّ الخيرَ الكامنَ قادمٌ بإذنه سبحانه، وستعود قضية فلسطين إلى مربعها الإسلامي وبُعدِها العقائدي الأصيل بإذن الله تحقيقا لا تعليقا، وسَيَكُونُ للشعب الفلسطيني المسلم دَورُه الرئيس في قضيته وتحرير بيت المقدس.
ويقولون متى هُو؟ قل عسى أن يكُونَ قريبا.
وللحديث بقية إن شاء الله..
لمتابعة بقية مقالات مجلة بلاغ العدد التاسع عشر جمادى الاولى 1442 للهجرة _ كانون الثاني 2021 للميلاد اضغط هنا