الأستاذ: الزبير أبو معاذ الفلسطيني
في خضم التحضيرات الأخيرة للانتخابات العامة التي أعلن عنها طاغوت فلسطين العلماني “محمود عباس”= أعلن المذكور أيضا عن “مرسوم رئاسي” جديد يتعلق بضمان “الحريات العامة” وإطلاق سراح “المعتقلين السياسيين” ضمن مناطق ما يسمى بــ “دولة فلسطين”؛ قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، وذلك لــ “تهيئة الأجواء” قُبَيْل الانتخابات المزمع إجراؤها، وبعد هذا “المرسوم” ظهر خلاف جديد قديم بين حركتي حماس وفتح حول طبيعة حال المعتقلين لدى كل طرف، حيث أكدت حماس أن المعتقلين في سجونها ليسوا “معتقلي رأي”، وأنهم جميعا معتقلون على خلفيات “أمنية وجنائية”، ثم بعد شد وجذب وتبادل حاد للتصريحات كاد يؤثر على “العملية الانتخابية” المرتقبة= تنازلت حماس وأفرجت عن عدد كبير من المعتقلين من أتباع حركة فتح، معللة بأن الإفراج تم بعد “معالجات قانونية”، ولعل ذلك بعد تدخل خارجي وضغوط إقليمية، فجاء انصياع حماس كي لا تُوَجَّه إليها مسؤولية عرقلة الانتخابات، ولنا مع هذه القضية وقفات.
بداية فإن صاحب الدعوة الإسلامية الصادقة والمشروع الإسلامي الحقيقي لا يلجأ إلى الاعتقال والحرمان من حق الحرية إلا بمقتضًى شرعي واقعي قائم؛ وحفاظا على المصلحة العامة للمسلمين وليس للنكاية، فلو لجأ إلى الملاحقة والتضييق دون هذا الضابط فما ذلك إلا لضعف حجته؛ وتمريرا لصفقاته السياسية الخاصة بمشروع جماعته.
وفي قطاع غزة قد وقعت حركة حماس في تناقضات فجة في إدارة ملف النزاع الحزبي مع حركة فتح منذ سيطرت على القطاع، فالأصل أن حركةَ فتح حركةٌ علمانية لا يجوز أن ينتمي إليها المسلم، ويَحرُم تكثيرُ سوادِها، فضلا عن خياناتها الصارخة التي لا يمكن أن تُبَرَّر بأي حال، فهي على الميزان الشرعي -أي هذه الخيانات- تُعتبَر مروقا من الدين لا ريب فيه، لا يَرُدُّه مانعٌ مِن موانع الشرع ولا يَتخَلَّفُ عنه شرطٌ من شروطه، وعلى ميزان القضية لا يمكن أن تَكُون هذه الخيانات إلا كفرا بالأرض والقضية، بعدما أن باعت -هذه الحركة العلمانية- أربعة أخماس فلسطين لليهود، ثم أتبعت ذلك بأن أصبحت أداة أمنية من أدوات الاحتلال اليهودي ضد المسلمين في فلسطين.
ومع ذلك ورغم الدماء التي سالت بين حركتي فتح وحماس قبل أن يستتب الأمر للأخيرة في قطاع غزة= كانت ولا زالت حماس تؤكد على “الأخوة الوطنية” مع فتح العلمانية، وتعلن عن تأكيدها الدائم في أن لحركة فتح الأحقية في الوجود على الأرض وممارسة العمل التنظيمي والمشاركة في الحياة السياسية!
وهذا مردود شرعا، فلا يجوز السماح لأصحاب الأفكار الباطلة الفاسدة الهدامة كالعلمانيين بأن يتمكنوا من المسلمين؛ وينتشروا بينهم، فضلا عن أن يَكُون لهم دور في الحكم وتولي أمور المسلمين، ومن واجبات الحاكم المسلم أن يحافظ على دين من هم تحت سلطانه كما يحافظ على دنياهم؛ بل أشد حفظا، ومن يشرعن نشر العلمانية بين المسلمين ولا يأبه بإضلالهم ولا يحافظ على دينهم ومعتقداتهم بدعوى السماح بــ “التعددية والتعايش”= أشد جرما ممن يشرعن نشر الفساد الأخلاقي؛ ويسمح ويصرح “قانونيا” لأهل الفجور والخنا والزنا، لكن لَمَّا غابت أحكام الشريعة الإسلامية عن الحياة السياسية داخل فلسطين أصبح للعلمانيين الخونة “حريةٌ ورأيٌ ومشروع”!
ورغم موقف حركة حماس المعلن هذا إلا أنها كانت طيلة فترة سيطرتها على قطاع غزة تُضَيِّق على أتباع حركة فتح وتلاحقهم، وتزج بالكثير منهم إلى السجون، ويتم تغليف هذه الملاحقات بــ “القانون” وتوجيه الاتهامات الأمنية والجنائية أحيانا، بعضه حقيقي وبعضه ليس كذلك، والحقيقة أن الصراع الحزبي هو الذي يقف خلف هذه الملاحقات، في تناقض بين التصريحات الإعلامية التي تتغنى بــ “الأخوة الوطنية” وبين المواقف على الأرض، وهنا لست مدافعا عن حركة فتح العلمانية بالتأكيد؛ أو الفكر الوطني الذي يجمع المصلح والمفسد تبعا للجنسية والانتماء للوطن، بل هو رصد لهذا التناقض الذي تقع فيه حماس، فالأصل أن تُمنَع فتح وأمثالُها من العمل؛ حفاظا على دين المسلمين، وبإعلانٍ صريحٍ لهذه النية، وأن تُعقَد الندوات واللقاءات والمحاضرات الشرعية لتعليم شباب المسلمين وتحذيرهم من مغبة نصرة أهل الباطل، فصاحب الدعوة يستعلي بدعوته، وبعدها يُعَزَّر المتمادي والمتجاوز بالسجن أو بما يقرره قضاء الشرع، أما أن يُغَرَّر بعوام المسلمين الجهلة بهذه الطريقة ثم يلاحَقو وهم يظنون أنهم يمارسون “حقوقهم” فهذا من الغش والخداع!
حركة حماس تريد أن تُظهِر نفسَها على أنها حركة وطنية تؤمن بالتعددية والديمقراطية، لكنها على أرض الواقع لا تقبل بالمخالف، فلا هي أعلنت ما يجب أن يكون من حِرصٍ على دين الناس، كوْنها حركةٌ إسلاميةُ المنطلق، ولا هي صَدَقَت في إيمانها بــ “التعددية”، وهذا إضافةً إلى كونه ممارسة عملية للخداع فهو كذلك تربية خاطئة للأتباع، فكيف سَيَكُون حالُ مَن يَرَى قيادَتَه تتغنى بخلاف ما تفعل! بل والأدهى أن هذا الغش والكذب مُبَرَّرٌ داخل أروقة الحركة بأنه من قَبِيل “الدهاء السياسي”، هذا الجيل الذي يتربى على هذه المعاني الفاسدة في العمل السياسي هو الذي سَيَكُون صاحب القرار في المستقبل، وما كان يراه حنكة بدافع الاضطرار سيصبح أصلا ينطلق منه في المستقبل.
ومن أمثلة هذا التناقض والتربية الخاطئة ما قامت به حركة حماس من تطبيع في علاقاتها مع القيادي المفصول من حركته الخائن “محمد دحلان”، ولقد حدث هذا بعد الانتخابات الداخلية السابقة للحركة عام 2017، حيث أفرزت الانتخابات صعودا لتيار أصبح له سطوة على القرار داخل حماس، وهو نفسه التيار الذي لا زال مسيطرا بعد عدة مراحل من الانتخابات الداخلية الأخيرة التي لا زالت قائمة حتى ساعة كتابة هذه السطور، فلقد قررت الحركة عدم تأجيل انتخاباتها الداخلية بعد أن كان الحديث قد استقر تقريبا على التأجيل للاستعداد للانتخابات العامة التي أُعلِن عنها، ويبدو أن الرجوع عن قرار التأجيل جاء لحسم الخلافات الداخلية حول الموقف من الانتخابات العامة، والذي ظهر واضحا في مرحلة اختيار قيادة قطاع غزة للحركة بالأمس، حيث أعيدت جولة الانتخابات عدة مرات إلى أن استقر الأمر مرة أخرى للقيادة الحالية التي يتزعمها “يحيى السنوار” ويدعمها “العسكر”، والتي يراها البعض مُقَرَّبةً من إيران، هذه القيادة هي التي تولت تطبيع العلاقات مع ما يسمى بــ “تيار الإصلاح الديمقراطي” الذي يتزعمه الخائن محمد دحلان، وما يهمنا من التطرق إلى هذه القضية هو نوع التبرير الذي مارسته الحركة داخل أروقتها أمام أبنائها الذين شبوا على العداء لفتح وتحديدا دحلان، فلقد كان التبرير مُنصَبًّا على أن هذه العلاقة مرحليةٌ للاستفادة السياسية والمالية من دحلان، سياسيا لأجل المساعدة في فتح باب العلاقة أكثر مع النظام المصري وأنظمة الخليج العربي، وأيضا لزيادة الشرخ داخل فتح باعتبار أن دحلان على خصومة شديدة مع عباس، وماليا من أجل المساعدات التي يجلبها دحلان إلى القطاع بدعم إماراتي، هذه التبريرات قد تبدو في ظاهرها منطقية؛ على حسب الفهم السياسي البراغماتي الذي تنطلق منه حماس، لكنها تبريرات لا تعالج التناقضات التربوية والفكرية التي تتسبب بها في عقول الأتباع، لأنها بدون سقف زمني، وبدون ضوابط شرعية، حيث استفاد تيار دحلان كثيرا من هذه العلاقة داخل قطاع غزة، بعد أن كانت قيادة حماس تؤكد أمام أتباعها أنها تعلم ماذا تفعل، وأنها ستقلب ظهر المجن لدحلان وتيارِه في مرحلة قادمة، بمعنى أن الحركة تشرعن الخداع وتبرمجه في عقول أتباعها! ورغم كل هذه التبريرات وصل الحال إلى أن سمحت حماس مؤخرا لكوادر وقيادات هذا التيار بالعودة إلى القطاع بعد أن تركوه هروبا من حماس نفسها إبان بسط سيطرتها على قطاع غزة قبل 14 عاما، فأغلب هؤلاء الكوادر مُتَّهَمُون في أحداث ما قبل سيطرة حماس على القطاع، ومشاركون في جرائم القتل والفساد ضد حماس والمسلمين وبقيادة دحلان نفسه يوم أن كان أحد أبرز قادة الأجهزة الأمنية المدعومة من أمريكا و”إسرائيل”، فما هو التبرير الآن الذي يجعل هذا التيار الإجرامي مُرَحَّبًا بهِ وتُفتَح له أبواب غزة ليمارس نشاطاته بكل حرية وأريحية! إن كان الغرض -كما هو متوقع- تفتيت الكتلة الانتخابية لحركة فتح عبر دعم المنشقين عنها دحلان وتيارُه= فهذا معناه أن التبريرات لن تنتهي في كل مرة، ولا يوجد خطوط حمراء في مثل هذه العلاقات مع الخونة كلما لاحت مصلحة مُتَوَهَّمَة، وسيبقى دحلان وتيارُه يستفيدون من علاقتهم بحماس؛ وربما أكثر مما تظنه هي فائدة لها، والنهاية فاسدة على أي وجه، فإما أن تستمر هذه العلاقات النفعية البراغماتية؛ والضحية هم عوام المسلمين، أو يصل دحلان وتيارُه لمرحلة لا يمكن أن تتجاوزه فيها حماس، أو تنقلب عليه فيظهر الوجه النفعي الذي لا يقيم وزنا للمبادئ! ومهما تكن التبريرات إلا أن الحقيقة ستبقى تصرخ بأن هذه البراغماتية التي لا تنضبط بضوابط الشرع بل بالمصالح المادية البحتة المُتَوَهَّمَة= ستصنع جيلا ممسوخ الفكر وبلا مبادئ شرعية.
وعودا إلى قضية الاعتقالات السياسية، ففي خضم التراشق بالتصريحات ما بين اتهام وتبرئة تناست حماس أن “المرسوم الرئاسي” الذي أصدره محمود عباس قد صدر ممهورا بتوقيع “رئيس دولة فلسطين”، وبتحديد مناطق سريان النفوذ ضمن قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، دون أن تعلن حماس عن موقف واضح من هذه القضية الحساسة، فحركة فتح تعمل ضمن رؤيتها السياسية القائمة على ما يسمى بــ “حل الدولتين” بما يتضمنه من اعترافٍ بدولة اليهود، اعترافٌ تعلنه حركة فتح العلمانية على رؤوس الأشهاد، وكل خطواتها السياسية العملية تنطلق من هذه الرؤية وتسير نحوها، في حين لم تزد حماس عن التأكيد العام بأنها ترفض الاعتراف بدولة “إسرائيل”، مع قبولها بدولة على حدود الــ67، لكنها في المقابل -أي حماس- تَسِير راغبة أو راغمة ضمن الرؤية السياسية لحركة فتح، فكل الخطوات العملية التي حدثت مؤخرا فيما يخص مرحلة الانتخابات العامة المرتقبة والاتفاقيات التي اتُّفِق عليها مع حركة فتح وبقية الفصائل= خرجت تحت مظلة اتفاقية أوسلو ورؤية حركة فتح ومنظمة التحرير، مما يؤكد أن حركة حماس تَسِير دون رؤية واضحة سوى أنها تحاول إدارة الوضع الراهن بما يسمح ببقائها في المشهد السياسي، وإلا كيف تقبل بأن يكون بائع فلسطين محمود عباس هو مصدر الإلزام للحالة السياسية بمراسيمه الرئاسية! وكيف تسكت عن تسمية نفسه رئيسا لــ “دولة فلسطين” التي رسم حدودها ضمن حدود الــ67 والقدس الشرقية مع تنازُلٍ عن بقية فلسطين لليهود= بما يتضمنه هذا السكوت من حماس من اعترافٍ ضمني بدولة اليهود!
ومن صور جرأة حركة فتح على فرض رؤيتها ومشروعها السياسي أنها رفضت ما بررته حركة حماس لوجود المعتقلين في سجون حكومتها بأن التوقيف والاعتقال تم بناء على قضايا “قانونية” لا سياسية، ليس تكذيبا لرواية حماس فقط بقدر ما هو رَفْضٌ للاعتراف بشرعية حكومة حماس ومحاكمها، على اعتبار أنها حكومة “غير شرعية” ولا يعترفون بما يصدر عنها من أحكام، بل حتى ما تم الاتفاق عليه مؤخرا في القاهرة على تشكيل محكمة للانتخابات مكونة من عدد محدد من القضاة من قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية= قد قامت حركة فتح بتعيين قضاة غزة من قضاتها السابقين الذين كانوا فترة وجود فتح داخل القطاع قبل سيطرة حماس عليه! ورفضت أن يشارك أي من قضاة حكومة حماس ضمن محكمة الانتخابات! رغم أن الاتفاق كان سببه تخوف حماس من تفرد فتح بإدارة العملية الانتخابية، ليعود الأمر كما أرادته حركة فتح ولكن هذه المرة مغلفا بــ “شرعية التوافق” الفصائلي، ودون أن يصدر عن حماس أي اعتراض عملي، فهي التي أعطت محمود عباس التفويض والشرعية لتشكيل محكمة الانتخابات لَمَّا قبلت أن يتم تشكيل المحكمة بــ “مرسوم رئاسي” من عباس، فقام الأخير بتطبيق ما اتُّفِق عليه!
ومن المضحكات المبكيات في “مرسوم الحريات” وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين الذي أصدره محمود عباس أنه إقرار بحالة الملاحقة والتضييق الممنهج الذي تقوم به حركة فتح في الضفة الغربية ضد معارضيها، واعتراف واضح أن الانتخابات لا يمكن أن تتم دون أن يلتزم أطرافها بسقف “الحريات العامة” الذي يكفله “الدستور والقانون”، وأن هذا الالتزام لا ضامن له إلا “المراسيم الرئاسية” المعلنة، في مشهد كئيب لأطراف تقول أنها تدير “دولة”! وحقيقة هذه الدولة أو السلطة أنها تحت رحمة الاحتلال؛ ولا يملك أصحابها العلمانيون من أمرهم شيئا في مواجهته، في حين أنهم كالضباع أمام معارضيهم من بني قومهم، ويضعون الشروط ويرسمون الخطط لكي يبقى لهم التفرد في القرار الذي لا يَنْفُذ بغير رغبة سلطات الاحتلال اليهودي! ثم يعزفون على وتر “الوحدة الوطنية والمشروع الوطني واستقلال القرار وقيام الدولة”! ولله في خلقه شؤون.
ومما لا شك فيه أن أطراف المشهد -حماس وفتح- يعلنون اليوم عن فتح باب الحريات العامة لكي لا يُتَّهَم طرفٌ منهم بأنه يعرقل العملية الانتخابية المفروضة دوليا على الجميع، بمعنى أنه في حال تعرقلت هذه العملية بصورة أو بأخرى فسيعود الجميع إلى سلطاته المتفردة والقمع والتضييق والملاحقة، وتصبح الحريات مجرد ذكرى عاش الشعب وهمها لفترة محدودة، فإن كانت حركة فتح ليست ممن يُعتَب عليه لأنها في الحقيقة تعتبر في صف أعداء الأمة فإن حركة حماس يجب أن تراجع سياساتها وخط سيرها ورؤيتها التي أصبحت بلا معالم، وعليها أن تطلق سراح المعتقلين السياسيين الحقيقيين من سجونها الذين لا بواكي لهم، وأعني الجهاديين الذين لا زال بعضهم معتقلا منذ سنوات، وآخرون لا زالوا يَمثُلُون أمام “القضاء” بعد الإفراج المشروط عنهم، وبعد أن جعلتهم حماس قربانا تتقرب به إلى النظام المصري لتدشين علاقتها به؛ عند صعود التيار الذي سيطر على قرار الحركة منذ عام 2017، والذي لا زال يفرض نفسه وسياساته.
اعتقالاتُ وملاحقاتُ الجهاديين استمرت لسنوات طويلة لم يَسلَم منها أغلب أفراد التيار الجهادي، تحت ذريعة الحفاظ على الهدوء مع اليهود وعدم جر الساحة إلى صدام، والحقيقة كانت صراعا فكريا لم تقبل حماس فيه بمن يخالف سياساتها غير المنضبطة بضوابط الشريعة، فالجهاديون لم يكونوا يرفضون التوافق مع حماس على عدم التصعيد مع اليهود، إنما كانوا يطلبون حق التواجد على الساحة والإعداد والدعوة ككل من فتحت لهم حماس الباب ممن داروا في فلكها دون اعتراض، وأنا هنا لا أتحدث عن تنظيم الدولة الذي يحاول البعض أن يلصقه بالتيار الجهادي؛ ولا يعنيني أمره من قريب أو بعيد، بل أعني التيار الجهادي تحديدا ذا الرؤية والمشروع؛ اتَّفَق معه من اتَّفَق واختَلَف معه من اختَلَف، هذا التيار الذي مورست ضده كل أساليب التضييق والملاحقة الممنهجة، حتى وصل الحال إلى محاكمة أفراده وفق “قانون العقوبات الثوري” الصادر عن منظمة التحرير لعام 1979، والذي تم وضعه لمحاكمة الخونة والعملاء! يعني أن الجهاديين حُرِمُوا حتى من أحكام شريعة ربهم العادلة، وأقامت حماس فيهم “عدالة” العلمانيين الثورية، ولا غرابة، فلو حاكمت حماس خصومها الجهاديين إلى شريعة الخالق لَأُدِين مَن لاحَقَهُم وضَيَّق عليهم وليس هم، هذا مع إقراري أن التيار الجهادي قد وقع في أخطاء سياسية كأي تيار، وذلك نتيجة للتعامل مع ساحة قطاع غزة بصورة لا تناسب واقعه في بعض الجوانب، وكان يمكن تجاوز ذلك وإصلاحه بمد جسور الحوار والتفاهم، وأشهد أن ذلك كان ممكنا، وليس باستغلاله لمد يد البطش والظلم والتضييق، فلا حجة تنفع مع الظلم، ويكفي أن هذه السياسة التي اتبعتها حماس مع التيار الجهادي قد جعلت لتنظيم الدولة -بعد ظهوره- سبيلا لاجتيال بعض الشباب المسلم إلى فكره الفاسد ومشروعه الإفسادي؛ والتغرير بهم مستغلا الجهل من ناحية والمظالم من ناحية أخرى، فالظلم يُوَلِّد الشر، وما كان ولن يكون سبيلا للإصلاح.
ويحضرني هنا بيان نشرته جماعة “مجلس شورى المجاهدين في أكناف بيت المقدس” تحت عنوان “بيان هام من مجلس شورى المجاهدين إلى الأمة الإسلامية وعلمائها”، بتاريخ 10\ 10\ 2012، أي قبل اغتيال أمير الجماعة الشيخ أبي البراء أشرف صباح مع الشيخ أبي الوليد المقدسي هشام السعيدني تقبلهما الله= بثلاثة أيام فقط، واللافت للنظر أن أمير الجماعة الشيخ أبا البراء قد اغتالته اليهود وهو مُتَخَفٍ عن الأنظار ومطارَدٌ لحكومة حماس وقد داهمت منزله أكثر من مرة بحثا عنه، وكان برفقته الشيخ أبو الوليد وقد كان حينها خرج حديثا من سجون حكومة حماس بعد اعتقالٍ قَارَب العامَيْن، ورغم أن حماس استطاعت تفكيك الجماعة وغيرها من الجماعات الجهادية إلا أن المظالم لا تَبْلَى؛ ولا تُطْوَى بالتقادم، وكان مما جاء في خاتمة البيان المذكور:
(وإننا نظن كتيار سلفي جهادي أننا بعد هذا البيان قد أعذرنا إلى الله وبينا حالنا قدر استطاعتنا وبينا مدى الظلم الواقع علينا وعلى مجاهدينا، مع أن بيانات مرئية وصوتية ومكتوبة قد صدرت في السنين الماضية من المجاهدين السلفيين، ولكن للأسف فإن بعض إخواننا الدعاة وتحت وقع التضليل الإعلامي؛ لم يتصور حجم الظلم والاجحاف الواقع علينا، ويعلم الله أننا لو أمنا في ديارنا كما يأمن النصارى والروافض وأصحاب البدع وأهل الضلال والفجور والفسوق والعصيان ما صدر منا مثل هذا البيان، فلسنا من أهل المناكفات ولا نسعى لها وعندنا ما يشغلنا عنها، فما بال حركة حماس يصل بها الحال إلى هكذا حال؟ ما بالها تدعو للصلح والتصالح مع العلمانيين الذين قتلوا أبناءها وفي المقابل تحاربنا وتقاتلنا وتمنعنا من أن نأمن في ديارنا؟ وما بالها تدعو للهدنة ليأمن اليهود المغتصبون جانبها ولا نأمن نحن؟ ما بالهم وقد اجتمعت علينا ملاحقتهم على الأرض مع ملاحقة اليهود من السماء؟ وإننا نؤكد لكم يا قادة حماس أننا لن نتوقف عن جهادنا وعن دعوتكم لتطبيق شريعة الرحمن، وثقوا أنكم مهما حاولتم أن تصدونا عن سبيل الله فلن تستطيعوا هذا بإذن الله، لأننا جزء من هذه الأرض، فاتعظوا من تجاربكم مع سلطة أوسلو التي سامتكم سوء العذاب وبعد أقل من عقد من الزمان أسكنكم الله مساكنهم ليرى ما تصنعون، فصنعتم صنيع الذين ظلموا بعدما تبين لكم، فاتقوا الله يا عباد الله، ولا تتكبروا على عباد الله ببعض القوة التي منحها الله إياكم، والتي يمكنه أن يزيلها منكم ويضعها بأيدي غيركم، فلبوا نداء العقل والحكمة) اهــ.
فإن نَسِيَت حماس فلا يجب أن تَنْسَى كيف عاشت تجربة التضييق والملاحقة في عهد السلطة العرفاتية الطاغوتية نهاية التسعينيات، حتى أصبحت سجون سلطة الهالك ياسر عرفات وحركته فتح وأزلامه قادة الأجهزة الأمنية غازي الجبالي ورشيد أبو شباك ونبيل طموس ومحمد دحلان= مسكنا لقادة وكوادر حماس، حتى إن الدكتور إبراهيم المقادمة تقبله الله أحد أبرز مؤسسي حركة حماس قد وصل به الحال من شدة التعذيب أن لا يستطيع الوقوف على قدميه، وتلك الفترة تعرفها حماس جيدا، وأحداثُها لا زلنا نذكرها كأنها بالأمس، بل لا زلنا نرى فصولها ماثلة في الضفة الغربية بما تمارسه سلطة فتح العلمانية ضد حركة حماس إلى الآن، وبما أننا نعيش ذكرى استشهاد المفكر الدكتور إبراهيم المقادمة تقبله الله فلا ضير من التذكير بكتابه “معالم في الطريق لتحرير فلسطين” حيث لا تخطئ عين القارئ لهذا الكتاب التباين الواضح بين منهج القادة المؤسسين لحركة حماس والقادة الحاليين، وكان مما قاله في كتابه رحمه الله: (إن وظيفتنا هي تحرير الأرض كل الأرض من حكم الطاغوت اليهودي وغير اليهودي وإقامة حكم الله في الأرض {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} نعم ليكون الدين لله؛ أي ليحكم دين الله الأرض كل الأرض) اهــ، فالوطنية والوحدة الوطنية ليست سبيل الصادقين، والحكم بغير ما أنزل الله ليست طريقهم أو غايتهم، وإقامة حكم الله على أرضه لا يكون بظلم عباده بِحُكمٍ سِوَى حُكمِه.
أخيرا فإن نقد حركة حماس لا يعني تمني ظهور العلمانيين عليها، بل هي صرخة في وجوه الذين جرفتهم السبل المتفرقة عن سبيل الله، ولئن تعود حماس إلى سابق عهدها وتُصلِح ما أفسدته بيدها أحب إلى قلوبنا والله، فإن أبت واستمرت في طريقها فلن تضر إلا نفسها، ويكفي أن تَبقَى تجربتُها السياسية وما حوتها من فشل وتنازلات ماثلة أمام بقية الجماعات الإسلامية في الثغور الأخرى، فليست تجربة حماس بقدوة تحتذى، ولا يُحمَد لحماس إلا قدرتها على بناء كتائبها العسكرية من لا مقومات، أما مشروعها وطريقها وطريقتها فحري بالآخرين الاتعاظ بالميل عنها، ومن أصر على سلوك نفس الطريق فلن يجد سوى ما وجدته حماس من تعثر وتخبط وانسداد في الأفق، وعلى الجماعات الإسلامية الأخرى أن تكون منطلقاتها إسلامية، وسياساتها واضحة دون ضبابية أو استئثار بالقرار، وأن تبتعد عن ظلم المخالفين وملاحقتهم والزج بهم في السجون، خاصة لو وافق ذلك رغبةً في “قَبُولٍ دولي”، فذلك أشنع وأبشع، ويكفي أن الاعتقال السياسي لمجرد المخالفة سُنَّةٌ سَنَّهَا الطواغيت والجبابرة.
ولله الأمر من قبل ومن بعد..