أمم وشعوب وطوائف وجماعات وأفراد هلكت عبر مسيرة التاريخ، وحل بها وعليها سخط الله جل وعلا؛ منهم من قص التاريخ علينا نبأهم ومنهم من رأينا وعاصرنا عاقبة بغيهم ووبال أمرهم، وأمرُ الله جل وعلا هو الاعتبار بهؤلاء وأولئك والحذر من السير على طريقهم، قال جل وعلا بعد أن ذكر ما حل ببني النضير جزاء كفرهم وبغيهم: (فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ)، وقال سبحانه وتعالى بعد أن ذكر خبر كفار قريش يوم بدر: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ)، وقال تعالى عن قصص الرسل وعاقبة المكذبين لهم: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)، وقال سبحانه بعد ذكره هلاك فرعون: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى).
قال الرازي في تفسيره: “الاعتبار مأخوذ من العبور والمجاوزة من شيء إلى شيء، ولهذا سميت العَبرة عبرة لأنها تنتقل من العين إلى الخد، وسمي المعبر معبراً لأن به تحصل المجاوزة، وسمي العلم المخصوص بالتعبير لأن صاحبه ينتقل من المتخيل إلى المعقول، وسميت الألفاظ عبارات لأنها تنقل المعاني من لسان القائل إلى عقل المستمع، ويقال: السعيد من اعتبر بغيره؛ لأنه ينتقل عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه، ولهذا قال المفسرون: الاعتبار هو النظر في حقائق الأشياء وجهات دلالتها ليعرف بالنظر فيها شيء آخر من جنسها”.
وإن هذا الأمر القرآني بالاعتبار موجه أصالة لأولي الأبصار ولأولى الألباب ولمن يخشى، وفي ذلك إشارة إلى أن العاقل يخشى على نفسه من الانزلاق في الهاوية التي انزلق فيها من قبله، ويحذر أن يسير في نفس طريقهم الضال، ولا يركن إلى نفسه ويطمئن إلى هواه، بل هو يصارع ويجاهد النفس والهوى وشياطين الإنس والجن طالما بقي له في الدنيا نفس.
إن الهالكين لم يولدوا إلا على الفطرة، وبلغتهم دعوة الحق، ولم يكن حالهم في بادئ غيهم كحالهم بعد أن أُشربت قلوبهم الغواية..، إنها خطوات الشيطان التي ساروا فيها خطوة خطوة فتقلبت أفئدتهم وأبصارهم وعوقبوا على السيئة سيئة بعدها وعلى الضلالة ضلالة مثلها، (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ).
إن مشاهدة هلاك المجرمين دون الاعتبار بمسيرهم ومصيرهم، يردي النفس في أودية الهلاك التي وقعوا فيها، لتتكرر نفس التجارب ونفس النتائج؛ فإنك لا تجني من الشوك العنب، والجزاء من جنس العمل، ومن لم يعتبر بغيره كان عبرة لغيره.
وإننا في عشر سنين من الثورة السورية والربيع العربي شاهدنا هلاك كثير من المجرمين والضالين والمتكبرين والغلاة والمنبطحين..، وشاهدنا كيف انزلق من انزلق فسار على درب هؤلاء الغاوين دون أن يعتبر بما حل بأسلافه السابقين، وإن كنا لا نأسى على الهالكين ونقول: بعدا للقوم الظالمين، إلا أنه يجب على أولي الأبصار أن يحذروا ويخافوا على أنفسهم، وأن يعتبروا بما حل بالهالكين، وأن يتأملوا أسباب غوايتهم، ومراحل ضلالهم، وكيف بدأ الانحراف، وإلى أي مدى وصل، وما أسباب النجاة، والعواصم من تلك القواصم، وبالعموم فالفتن خطافة والقلوب ضعيفة “انج سعد فقد هلك سعيد”، فاللهم سلم سلم.