الأسير 9 – الواحة_الأدبية – – مجلة بلاغ العدد ٥٣ – ربيع الأول ١٤٤٥ هـ

الأستاذ: غياث الحلبي

الوضع في صيدنايا أسوأ بمراحل مما يمكن للعقل البشري تصوره، أخذ هاني ينظر للأيام الكالحة التي أمضاها في الفرع الأمني وكأنها أعراس مقارنة بما يلقاه هنا في هذا المكان التعس، الخوف هنا هو سيد المكان، لا يمكن أن تمر عليك لحظة إلا وقلبك ممتلئ رعبا، صراخات المعذبين لا تنقطع ليلا ولا نهارا، صراخات غريبة جدا لم يسبق أن سمع لها مثيلا طوال مدة سجنه السابقة، صراخات تصدر من أشخاص وكأن الشياطين تفترسهم، وتمزق أوصالهم.

لا يمكن للقلب أن يشعر هنا بالأمان ولو للحظة واحدة، حتى عندما ينام السجين تنهمر عليه الكوابيس الطافحة بالتعذيب والصراخ والقتل والدماء.

يوميا يقتل عشرات السجناء تحت التعذيب، بالطريقة التي تحلو للسجانين، الذين كانوا كلابا مسعورة لا يهدؤون إلا بعد أن تبصر أعينهم الدماء المهراقة تسيل غزيرة بجناية أيديهم

من المعتاد جدا أن يطلب السجان من كل مهجع أحد السجناء ليقف وسط المهجع ثم يدخل إليه ويظل ضربه بالأخضر الإبراهيمي، أو بقضيب مدني تارة، ويركله تارة، ويقفز عليه ثالثة حتى يفارق الحياة ويصدر منه صوت يعرف “بشخرة الموت” عندها يشعر السجان أنه قد نفذ واجبه وألقى حملا ثقيلا عن كاهليه فينصرف راضيا إلى مهجع آخر ليكرر العملية نفسها.

أساليب العذاب هنا لا نهاية لها، وكأن السجانين قد تعلموها على يد أعتى الشياطين في أقصى الجحيم، ليس بين هؤلاء وبين الإنسانية أدنى وشيجة، إنهم ذئاب أو ضباع أو أي شيء آخر لا علاقة له بالبشر، كانوا شراً محضاً لا تخالطه ذرة من الخير، أفئدتهم خالية تماما من أي مشاعر تمت إلى الآدميين بصلة، إنهم الكفر بعينه.

السجين يطير هنا إلى حتفه بجناحي الرعب والجوع، فالجوع هو السمة الثانية التي تلي الرعب، ألم الجوع لا يطاق، هو أشد من آلام التعذيب المباشر، شدة الجوع تخرج في الإنسان أسوأ ما فيه، كان طعام السجين لا يكفي لإشباع هرة، يتقاسم الأربعة والخمسة رغيف خبز واحد، مع حبة زيتون واحدة لكل منهم، هذا في الفطور أما الغداء ــ وهو إما أرز وإما برغل ــ فقد كانوا يعدون الحبات عدا ويكون نصيب الفرد ما بين الخمسين إلى الستين حبة أرز أو برغل، والطعام خال من الملح تماما ليس فيه ذرة واحدة منه.

بعض السجناء تحولوا إلى وحوش كاسرة داخل المهجع يريد أن يشبع بأي طريقة، قد يسرق طعام سجين آخر وقد يسطوا عليه قهرا، وربما لفق فرية رمى بها أحد السجناء ليتقرب بذلك إلى السجانين فينال منهم كسرة خبز قد غطاها العفن، البعض كان يتمنى أن يموت أحد السجناء ليظفر بحصته من الطعام، إنه الجوع الذي كان أشد ضراوة على السجناء من الوحوش الآدمية أنفسهم.

زد على ذلك أن إدخال الطعام إلى المهجع كان يعني أن ثمة قتيلا أو مصابا إصابة خطيرة في كل مرة يُدخل فيها الطعام، فالتعليمات هنا تقتضي أن يقف رئيس المهجع بهيئة الركوع ــ حالما حين موعد إدخال الطعام ــ خلف الباب ثم يوضع سطل من الشاي المغلي وطست كبير ترقد في قعره حبات الطعام متناثرة هنا وهناك، ثم يفتح السجان باب الزنزانة نصف فتحة وعلى رئيس المهجع أن يقوم بإدخال الطعام بسرعة ليتفادى أكبر قدر من الضربات التي سيسددها السجان إليه، وحالما يخرج جذعه يهوي السجان بحذائه العسكري بركلة على رأسه، وقد يمسكه من شعره ثم يغمس وجهه في سطل الشاي، وقد ينقض عليه بقضيب معدني على عنقه، ولا ينجو من قتلة إدخال الطعام إلا طويل العمر.

أما النوم فإن مدّ الرجلين فضلا عن الاضطجاع يعد ترفا زائدا جدا، المكان ضيق جدا والزنزانة على صغرها محشوة بعشرات السجناء، لذا ينام السجين نصف المدة مقعيا على أليتيه وعليه أن يقف النصف الآخر ليفسح المجال لغيره

لم يمض على هاني أسبوع حتى رأى أحد السجناء يعود إلى المهجع وهو يمشي مباعدا بين رجليه وهو يبكي بكاء مراً يفلق أشد الصخر قساوة، ثم ارتمى على بطنه وهو ينشج، لم يجرؤ هاني على سؤاله ولكنه سأل سجينا آخر بجواره: ماذا فعلوا به؟

أجاب السجين: يبدو أنهم أجلسوه على كرسي النار

ــ وما هو؟

ــ يحضرون كرسيا ثم ينزعون مقعدته ويضعون تحته شموعا ثم يعرون السجين ويجلسونه على الكرسي ويبدأ جلده بالاحتراق إذ ليس بينه وبين مصدر النار سوى ثلاثين سم.

ــ ارتعد هاني وهو يسمع هذه الكلمات، فأضاف السجين: المشكلة هنا أن التعذيب لا غاية له سوى إرواء الغرائز الحيوانية للسجانين، وهي غرائز لا حد لها ولا نهاية لها، لا يمكنك أن تفعل شيئا لتتخلص من التعذيب، عندما كنا في الأفرع كان التعذيب يتوقف أو يخف عندما نقول سنعترف، أما هنا فلا يوجد شيء يمكنك فعله ليتوقف السجان عن التعذيب إلا أن تموت، وليت الموت كان بأيدينا إذ لمت في أول لحظة رميت فيها في هذا المكان القذر، لقد وضعوني على كرسي الكهرباء ووضعوا سلكاً على لساني وآخر على جهازي التناسلي وسرت الكهرباء في جسدي، أخذت أصرخ بشدة حتى كاد حلقي أن ينشق كنت مستعدا أن أفعل أي شيء ليوقفوا الكهرباء، كانوا يضحكون بشدة ويسخرون مني ويقولون أن اليوم عرسي وأني قد تزوجت بالآنسة كهرباء ويجب أن أكون فحلاً معها، كدت أموت ولكني للأسف لم أمت، ما أصعب أن تتمنى الموت ولا تجده.

كان هاني واقفا وهو يستمع إلى حديث السجين فشعر أن ساقيه كعيدان المعكرونة المسلوقة لم تعد قادرتين على حمله فبرك على ركبته وابتلع ريقه بصعوبة شديدة، يا لهول ما يسمع، لقد أصبح فؤاده فارغا، فالتجأ إلى الله يضرع إليه ويسأله أن يخلصه مما هو فيه من الآلام التي لا تطاق.

Exit mobile version