الأسير 11 – الواحة الأدبية – مقالات مجلة بلاغ العدد ٥٥ – جمادى الأولى ١٤٤٥هـ

الأستاذ: غياث الحلبي

 

لقد انصرمت أربعة أعوام وبضعة أشهر مذ هاجم الشبيحة بيت هاني واختطفوه من زوجه وطفله، كانت ميساء محتارة اليوم في أمرٍ طالما رفضته سابقًا، إنه الزواج فقد قيل لها: إنك شابة صغيرة وجميلة والدنيا لم تتوقف عند هاني وقد تظلين عمرك تنتظرينه ثم لا يأتي، ثم إن ابنك الصغير بحاجة إلى رجل يربيه ويكفله، ويمكنك أن تذهبي إلى المحكمة لترفعي دعوة فيحكم القاضي لك بالتفريق أو الطلاق.

هي نفسها لا تعلم لمَ تجد في نفسها صراعًا داخليًا نحو هذا الأمر، مع أنها قالت بلسانها: لا، ربما لأن الزمن طال ولم يرجع هاني، ربما لأنها أخذت تميل إلى أنه قد قتل، ربما للفقر الذي تعاني منه وطفلها، وقد سئمت طريقة التعامل مع المنظمات التي تمتهن كرامة الإنسان وتذله قبل أن تجود عليه بما سرقت نصفه، وربما لكثرة ما عرض عليها هذا الأمر، وربما لأنها شعرت بحاجتها إلى رجل يحميها ويحمل عنها شيئًا من أعباء الحياة التي أنهكت كاهلها.

هي لا تعرف الشاب الذي تقدم اليوم لخطبتها وقد تعهد بالسير في قضيتها في المحكمة حتى تحصل على الحكم الذي يبيح لها الزواج.

قيل لها أنه شاب محترم، وذكي، ومتعلم، ويعمل مع أحد الفصائل المجاهدة، وهو متزوج ولديه طفلان، بالطبع لم يعجبها أن تكون ضرة، أو شريكة لامرأة تقاسمها زوجها. 

صرحت بذلك لجارتها التي جاءت تعرض عليها الأمر مجددًا وتحضُّها عليه، فشعرت الجارة في داخلها أنها أحرزت انتصاراً مبدئياً فالرفض لم يعد للفكرة من أصلها وإنما لبعض التفاصيل المتعلقة بها، وهذا مبشر أن موافقتها غدت قريبة، بل قريبة جدًا.

وأجابت الجارة: لنتكلم بصراحة وهل تنتظرين أن يتقدم لك شاب عَزَب؟

صدمها الجواب، ولم تدرِ ما تقول فعادت إلى الرفض قائلة: أنا لن أتزوج، سأنتظر هاني حتى يأتي.

ـــ وإذا لم يأت هل سيضيع شبابك هكذا في انتظار المجهول؟ اطردي الشيطان وكفاك تعززاً هذا الشاب “لقطة” ولن تجدي أفضل منه ديناً وخلقاً ورعاية لك ولطفلك، القطار يسير فأدركيه قبل أن تعضي أصابع الندم.

ـــ وكيف سأنزل على ضرة؟

ـــ وماذا في ذلك؟ الزمن تغير ونحن في حرب، والله جل اسمه شرع ذلك.

ـــ لا أقدر، لا أقدر، أرجوك انسي الموضوع ولا تعودي إلى فتحه معي مجددا، هذا قراري النهائي.

ـــ لا، هذا ليس قرارك أنت متخوفة من الناس، وضميرك المتعنت يريد منعك من أمر تريدينه ولكنك لا تجرئين على البوح بذلك، على أي حال سأتركك الآن لتفكري جيدا في الأمر، فكري في مصلحتك ومستقبل صغيرك ولا تقيمي لكلام الناس وزنًا فهم لن يكفوا عن ذلك أبدًا فلا تهتمي لذلك، ثم استأذنت وانصرفت تاركة ميساء في لججٍ من الحَيرة والاضطراب والتردد.

قامت تصلي الاستخارة وتدعو وتلح في الدعاء، تفكر في الأمر وتوازن بين سلبياته وإيجابياته، فتارة تزعم لنفسها أنها قد وافقت وهذا قرار نهائي وأخرى تزعم لنفسها أنها رفضت رفضا نهائياً ولن تعود إلى التفكير في الأمر، ولا تلبث إلا يسيراً حتى تتوارد الأفكار إلى رأسها مجددا، وما زالت على ذلك حتى انبلج الفجر ولم تذق عيناها غمضاً، ولم تكتحل بنوم.

وبعد أن صلت الفجر اضطجعت قليلا ساهمة تفكر وإذ بها تغط في نوم عميق، ورأت في نومها زوجها جالساً محتبياً في زاوية غرفة شبه مظلمة وعلامات الحزن بداية على وجهه نادته: هاني، هاني، فالتفت إليها ونظر بعينين صامتتين حزينتين جدا غير أنه لم يجبها بشيء ثم غاب عنها، فلما استيقظت أخذت تبكي بكاء مرّاً وتشهق بشدة وقالت لنفسها: لن أتزوج أبداً حتى يرجع هاني ولو أمضيت بقية حياتي كلها في انتظاره.

وعندما جاءت جارتها لتسمع منها رأيها النهائي أبلغتها رفضها القاطع وقصت عليها المنام الذي رأته، ومع أن الجارة كانت جاهلة ولا علم لها من قريب ولا بعيد بتأويل الرؤى إلا أنها سألتها قائلة:

ـــ ألم تسألي نفسك لماذا لم يردّ عليك عندما ناديته؟ ولماذا كان حزينا؟

ـــ الجواب واضح لأني فكرت في الزواج

ــــ ومنذ متى وأنت تجيدين تعبير الرؤى، كلامك غلط.

ــــ وما هو التأويل الصحيح إذن؟

ــــ واضح جدا ولا أدري كيف خفي عليك

ـــ وما هو؟

ـــ لا تغضبي مني، لكن الكلام الذي سأقوله يعرفه كل من يفسر الأحلام فلا تحرني

ـــ تكلمي

ــــ هذا يعني أن هاني قد مات رحمه الله، لأن الميت لا يستطيع الكلام ولذلك لم يرد عليك، وهو حزين عليك وعلى طفله ونظرته الحزينة تصرح بذلك

ـــ لا، هذا ليس صحيحا، هاني لم يمت وسيعود

ـــ هذا ما نتمناه ولكن ما كل ما يتمناه المرء يدركه *** تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

إني لك ناصحة ولن ينفعني زواجك شيئا ولن أستضر برفضك، في النهاية النساء سواك كثير ولكن ارفقي بنفسك وارحمي هذا الطفل الذي لا ذنب له، واسألي من شئت عن تفسير حلمك.

وعادت ميساء إلى الحيرة والتيه ثانية، ومضت مجددًا تصارع أمواج الأفكار المتناقضة، غير أنها هذه المرة لجأت إلى استشارة صديقاتها فدعتهن إلى فنجان قهوة وأخبرتهن بالأمر فاجتمعت كلمتهن على أن تتزوج وتخرج من القوقعة التي حبست بها نفسها، وهنا استغلت الجارة الأمر وقالت: إذن سأخبر الشاب بأنك موافقة ليبدأ بالسير في عملية الطلاق، وصمتت ميساء فلم تقل شيئا، والسكوت علامة الرضا كما يقولون.

لم تستغرق القضية في المحكمة وقتا طويلا فبعد تقديم الأدلة المطلوبة قام القاضي بتطليق ميساء غيابيا وأمرها أن تعتد العدة الشرعية حتى يحل لها الزواج.

فلما انقضت العدة جاء الخاطب واسمه ماجد ورآها الرؤية الشرعية ثم عقد عليها، خلال شهر أُتمت الاستعدادات للعرس ومع مطلع الشهر الجديد احتفلت ميساء وماجد بعرسهما وفي تلك الليلة خطر على بالها هاني وانحدرت دمعة من عينها ولكنها سرعان ما مسحتها قبل أن يلاحظها ماجد وغالبت نفسها لتنسى الأمر وتبدأ حياتها الجديدة.

انتقلت ميساء من بيتها لتسكن في بيت آخر اختاره زوجها بعد قريتين ليكون قريبا على بيته الأول وأعطت بيتها السابق لبعض المهجرين ليسكنوا فيه.

كانت حياة ميساء مع زوجها الجديد حياة هادئة هانئة ولقي ابنها منه عطفاً وحباً وقد استطاعت أن تتحاشى الصدام مع ضرتها وتتجنب كثيرا من المشاكل التي تجري عادة بين الضرائر ربما أكسبتها الظروف القاسية التي عاشتها حكمة جعلتها تترفع عن كثير من التوافه والسفاسف فكانت حريصة على إسعاد زوجها والاهتمام به.

وبعد عام من الزواج وضعت ميساء طفلة جميلة سماها زوجها فاطمة على اسم والدته، وما إن تعلت من نفاسها حتى اضطرت إلى النزوح إلى مكان آخر أقلّ خطراً فقذائف مدفعية النظام وراجماته الصاروخية صارت تتساقط بكثافة على المنطقة من أجل تهجير أهلها، وبالفعل نزح أهالي تلك القرى جميعا واستمرت المعارك ضارية هناك حتى تمكن النظام من احتلالها والسيطرة عليها بعد أن جعلها أكواما من الركام.

Exit mobile version