الأسير (٥) – الواحة الأدبية – مجلة بلاغ العدد ٤٩ – ذو القعدة ١٤٤٤ هـ

الأستاذ: غياث الحلبي

عاد هاني إلى الزنزانة بعد جولة التحقيق الأولى وكل عظم من عظامه يشكو ألما، وقد امتلأ جلده جرحا حتى كأنها أفواه أصحاب الشنفرى [إشارة إلى قول الشنفرى في لاميته: مُهَرَّتَةٌ فُوْهٌ كأنَّ شُدُوقَها شُقُوقُ العِصِيِّ كالِحاتٌ وبُسَّلُ].

كان يئن من شدة الوجع أنينا خافتا إذ إن التأوه بصوت مرتفع ممنوع، فليس من حقك أن تتألم من ظلم السجان وإجرام المحقق، فليست هذه الأفرع والسجون إلا مدارس ومستشفيات تعلم الجاهل الوطنية والإخلاص للأرض والقائد، وتعالج المريض بالتطرف والإرهاب إن كان يقبل العلاج وإلا فلا بد من التضحية بالعضو المريض بالقتل حفاظا على سلامة سائر الجسد!، هكذا فعلا كان يخاطب رئيس الفرع السجناء بكل وقاحة وصفاقة.

سارع الصيدلي إلى استقبال هاني وأخذ يتفقد جراحه محاولا تنظيفها بخرقة يبللها بالماء بين الحين والآخر، وذلك جميع ما هو متوفر من المعدات الطبية في الزنزانة.

– حمدا لله على سلامتك يا هاني.

– الله يسلمك، لقد كسروا عظامي، كسر الله أيديهم، آه آه، لو كنت يهوديا لعاملوني بشكل أفضل.

– أضحكتني، مع أن الظرف لا يساعد على الضحك، لو كنت يهوديا للقيت كل احترام وتوقير ولما مس أحد منك شعرة.

– الله ينتقم منهم، أربعة تكاثروا علي يضربونني بكل وحشية بالعصي والكبال وركلا بأرجلهم.

– اكظم نفسك قليلا، فهذه الجراح تحتاج تنظيفا عاجلا، وقد يؤلمك ذلك، ويضغط الصيدلي على الجرح بكلتا يديه، وتند من فم هاني صرخة مدوية يرتج لها المهجع هلعا، فالكل يخشى أن تجلب لهم هذه الصرخة حفلة تعذيب هم أغنى الناس عنها، وجمد السجناء في أماكنهم يرتقبون العواقب، إلا أنها مرت سليمة، وعاد الصيدلي يخاطب هاني:

– كدت تهلكنا.

– آسف، لم يكن ذلك عن إرادة مني، لم أقدر أن أتحمل الألم، سامحوني بالله عليكم.

– عليك أن تكون أشد حذرا، فتصرفك هنا لا يحسب عليك فقط بل على الجميع.

– حسنا، سأكون أكثر انتباها في المرات القادمة.

– والآن، لنعد إلى تنظيف جروحك، ولكن هذه المرة سأستخدم أسلوبا آخر.

– أهذا وقت المزاح، ستضربني مثلا؟

– فعلا، هذا ليس وقت المزاح، أنا جاد فيما أقول.

– ماذا ستفعل؟

– سترى الآن.

وينادي الصيدلي شابين فيطلب من أحدهما أن يثبت جسد هاني قدر استطاعته، ويطلب من الآخر أن يغلق له فمه.

– سيكون هذا قاسيا، ولكن ليس باليد حيلة، هذا لمصلحتك حتى لا تلتهب الجروح وتفضي بك إلى الهلاك.

وانهمك الصيدلي والشابان في عملهما بجد وخفة حتى أتموه فتنفسوا جميعا الصعداء.

– كادت روحي أن تخرج، الألم الذي لاقيته هنا يضارع الألم الذي لقيته أثناء التحقيق.

– ما من هذا بد، وإلا ساءت حالك وتقيحت جروحك وقد يؤدي ذلك إلى الموت.

– الموت!، ما من شيء أحب إلي منه، وليته يأتي ويخلصني مما أنا فيه.

– عليك أن تصبر يا هاني، فالجزع لا يفيد شيئا.

– عذرا، نسيت أن أشكرك، سلمت يداك، وعجل الله بفك أسرك، وردك سالما إلى أهلك.

– هذا الكلام الذي أريد أن أسمعه، آمين، لنا جميعا، طمئني كيف جرى التحقيق؟

– لقد اعترفت بأشياء لم تحدث قط، بل لم أفكر بها يوما.

– أرجو ألا تكون اعترافات خطيرة.

– لا أدري، اعترفت بمشاركتي بالمظاهرات وهتافي ضد النظام.

– هذا كله هين، وماذا أيضا؟ هل ذكرت اسم أحد؟

– نعم، ولكنهم جميعا ممن قتلوا في المجزرة التي حدثت في قريتنا.

– كان خيرا لك ألا تفعل.

– أتحسب الأمر بيدي، لو لم يكتف المحقق بذلك لاعترفت أني شاركت بقتل بوليوس قيصر واغتيال لينكولن وكينيدي وأنديرا غاندي، بل كنت مستعدا لأن أكون مسؤولا عن سقوط الجولان، وإذاعة بيان احتلال القنيطرة، وحتى عمليات 11 / أيلول كنت مستعدا للاعتراف أني كنت أقود إحدى الطائرات التي صدمت الأبراج.

– يبدو أن شهيتك قد فتحت على أنواع الاعتراف، صدقني هذه النفسية لن تزداد إلا عذابا، ألم أقل لك إن الاعتراف ليس سوى سبيل للهلاك؟

– العذاب فوق الطاقة.

– الاعتراف سيجعله مضاعفا أضعافا كثيرة، على أي حال أحسنت صنعا بعدم ذكرك اسم شخص حي، وبإمكانك أن تعتبر أن المرحلة الأصعب في التحقيق قد مضت، وبقي عليك أن تحذر من أي إضافة في جولات التحقيق القادمة، أي اعتراف جديد سيكون له أثر كارثي؛ لأن المحقق سيشعر أنه قد خدع وسيكون انتقامه رهيبا، ولن يتركك حينها إلا جثة هامدة تحت سياطه أو مساقا إلى حبل المشنقة.

– متى تظن سيحقق معي مجددا.

– لن يطول الأمر كثيرا، ربما تطلب الليلة أو غدا، وعلى أكثر تقدير خلال بضعة أيام.

– هل سيعذبونني مجددا؟

– هذا شيء لا بد منه، ولكن لا تفكر في ذلك كثيرا حتى لا تضعف، عندما يقع البلاء تأتيك المعونة من الله، المهم الآن أن تلجأ إلى مولاك وتتضرع إليه وتسأله الثبات، فبقدر افتقارك إليه وتذللك بين يديه يكون صبرك وثباتك.

والآن يجب أن ترتاح قليلا، حاول أن تنام لتستعيد قواك، وأسأل الله لك الشفاء.

يتبع في العدد القادم إن شاء الله. 

Exit mobile version