الشيخ: أبو حمزة الكردي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين:
أمام واقع فتنة المال والولد يتذكر المؤمن قوله تعالى: (أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) يقول الطبري رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: “اعلموا أيها المؤمنون أنما أموالكم التي خولكموها الله وأولادكم التي وهبها الله لكم اختبار وبلاء، أعطاكموها ليختبركم بها ويبتليكم لينظر كيف أنتم عاملون من أداء حق الله عليكم فيها والانتهاء إلى أمره ونهيه فيها”.
* ومع ذكر الله عز وجل أن المال والولد فتنة تصيب الإنسان في حياته إلا أنها لا تضره إذا لم يعلق قلبه بها فتسلبه إيمانه وتشغله بدنياه عن أخراه فيضيع الاثنان معا، قال تعالى ذكره ذاكرا ومنبها لنا: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) يقول السعدي رحمه الله: “أخبر تعالى أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا، أي: ليس وراء ذلك شيء، وأن الذي يبقى للإنسان وينفعه ويسره الباقيات الصالحات، وهذا يشمل جميع الطاعات الواجبة والمستحبة من حقوق الله، وحقوق عباده، من صلاة، وزكاة، وصدقة، وحج، وعمرة، وتسبيح، وتحميد، وتهليل، وتكبير، وقراءة، وطلب علم نافع، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، وصلة رحم، وبر والدين، وقيام بحق الزوجات، والمماليك، والبهائم، وجميع وجوه الإحسان إلى الخلق، كل هذا من الباقيات الصالحات، فهذه خير عند الله ثوابا وخير أملا، فثوابها يبقى، ويتضاعف على الآباد، ويؤمل أجرها وبرها ونفعها عند الحاجة، فهذه التي ينبغي أن يتنافس بها المتنافسون، ويستبق إليها العاملون، ويجد في تحصيلها المجتهدون، وتأمل كيف لما ضرب الله مثل الدنيا وحالها واضمحلالها ذكر أن الذي فيها نوعان: نوع من زينتها، يتمتع به قليلا، ثم يزول بلا فائدة تعود لصاحبه، بل ربما لحقته مضرته وهو المال والبنون ونوع يبقى وينفع صاحبه على الدوام، وهي الباقيات الصالحات”.
* وهذه المتع من الدنيا لا تنفع صاحبها إلا بقدر حسن عمله وصلاته وصيامه وعبادته قال تعالى: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ) [سورة سبأ 37].
* وأخبر تعالى أن الكثرة لا ترد حسابا أو تخفف عذابا عند الكفر وانعدام الإيمان قال تعالى: (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [سورة الممتحنة 3].
* وقد تبلغ الفتنة بالأهل والأولاد أن يصبحوا أعداء للإنسان، قال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة التغابن 14] يقول السعدي رحمه الله: “هذا تحذير من الله للمؤمنين، من الاغترار بالأزواج والأولاد، فإن بعضهم عدو لكم، والعدو هو الذي يريد لك الشر، ووظيفتك الحذر ممن هذه وصفه..، ولما كان النهي عن طاعة الأزواج والأولاد، فيما هو ضرر على العبد والتحذير من ذلك قد يوهم الغلظة عليهم وعقابهم، أمر تعالى بالحذر منهم، والصفح عنهم والعفو، فإن في ذلك من المصالح ما لا يمكن حصره، فقال: (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لأن الجزاء من جنس العمل. فمن عفا عفا الله عنه، ومن صفح صفح الله عنه، ومن غفر غفر الله له، ومن عامل الله فيما يحب، وعامل عباده كما يحبون وينفعهم، نال محبة الله ومحبة عباده، واستوثق له أمره”.
* والمال والولد سبب للضياع والخسران حال الانشغال بهم عن ذكر الله وعبادته فهم فتنة محببة إلى نفس الإنسان، قال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [سورة المنافقون 9].
* والمال والولد من النعم المحبوبة المرغوبة للناس في الدنيا ولكن ما عند الله خير وأبقى، فإياك أن تتعلق بهم وتنسى من وهبهم لك ورزقك إياهم، يقول السعدي رحمه الله في تفسيره قول الله تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ): “يخبر تعالى أنه زين للناس حب الشهوات الدنيوية، وخص هذه الأمور المذكورة لأنها أعظم شهوات الدنيا وغيرها تبع لها، قال تعالى: )إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا) فلما زينت لهم هذه المذكورات بما فيها من الدواعي المثيرات، تعلقت بها نفوسهم ومالت إليها قلوبهم، وانقسموا بحسب الواقع إلى قسمين؛ قسم: جعلوها هي المقصود، فصارت أفكارهم وخواطرهم وأعمالهم الظاهرة والباطنة لها، فشغلتهم عما خلقوا لأجله، وصحبوها صحبة البهائم السائمة، يتمتعون بلذاتها ويتناولون شهواتها، ولا يبالون على أي وجه حصلوها، ولا فيما أنفقوها وصرفوها، فهؤلاء كانت زادا لهم إلى دار الشقاء والعناء والعذاب، والقسم الثاني: عرفوا المقصود منها وأن الله جعلها ابتلاء وامتحانا لعباده، ليعلم من يقدم طاعته ومرضاته على لذاته وشهواته، فجعلوها وسيلة لهم وطريقا يتزودون منها لآخرتهم ويتمتعون بما يتمتعون به على وجه الاستعانة به على مرضاته، قد صحبوها بأبدانهم وفارقوها بقلوبهم، وعلموا أنها كما قال الله فيها: (ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) فجعلوها معبرا إلى الدار الآخرة ومتجرا يرجون بها الفوائد الفاخرة، فهؤلاء صارت لهم زادا إلى ربهم. وفي هذه الآية تسلية للفقراء الذين لا قدرة لهم على هذه الشهوات التي يقدر عليها الأغنياء، وتحذير للمغترين بها، وتزهيد لأهل العقول النيرة بها، وتمام ذلك أن الله تعالى أخبر بعدها عن دار القرار ومصير المتقين الأبرار”.
وقد ورد أنه جاء الحسن وَالحسين رضي الله عنهما يَسْتَبِقَانِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضمهما إليه وقال: »الْوَلَدُ مَجْبَنَةٌ مَبْخَلَةٌ« أي سبب للبخل وعدم الإنفاق في سبيل الله وعدم الخروج في سبيل الله، وزاد في بعض الروايات »مجهلة« أي سبب لعدم الخروج لطلب العلم فيحصل الجهل فيحصل بذلك شقاء العبد وفتنته فتضيع دنياه مع أخراه.
* وقفات لتحصين النفس أمام فتنة المال والولد:
1 – الاستعاذة بالله عز وجل وسؤاله الثبات عند الفتن:
فعن ابن مسعود رضي الله عنه، في قوله: (أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) قال: “مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى فِتْنَةٍ، فَمَنِ اسْتَعَاذَ مِنْكُمْ فَلْيَسْتَعِذ بِاللَّهِ مِنْ مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ”.
2 – مخالفة هوى النفس واتباع الحق:
ففي قوله: (وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) يقول الطبري رحمه الله: “وَاللَّهُ عِنْدَهُ ثَوَابٌ لَكُمْ عَظِيمٌ، إِذَا أَنْتُمْ خَالَفْتُمْ أَوْلَادَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ رَبِّكُمْ، وَأَطَعْتُمُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَدَّيْتُمْ حَقَّ اللَّهِ فِي أَمْوَالِكُمْ، وَالْأَجْرُ الْعَظِيمُ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ الْجَنَّةُ”.
3 – معرفة أن المال والولد من النعم الزائلة ولن يبقى من العمل إلا صالحه:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلاَثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى وَاحِدٌ، يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ، وَيَبْقَى عَمَلُهُ«.
4 – أن يتقدم حب الله ورسوله على حب المال والولد:
ففي حديث أنس رضي الله عنه قال: قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ».
5 – وحتى لا يكون الولد سببا في فتنة أبيه أو سببا لعذابه بل يكون حسنة من حسناته في الدنيا والآخرة، فليكن قولنا ودعاؤنا دائما: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) يقول الطبري رحمه الله: “ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا ما تقرّ به أعيننا من أن تريناهم يعملون بطاعتك”.
والحمد لله رب العالمين.
الشيخ أبو حمزة الكردي