إصلاحوفوبيا – كتابات فكرية – مقالات مجلة بلاغ العدد ٥٧ – رجب ١٤٤٥ هـ

الأستاذ: أبو يحيى الشامي

عندما خطر لي هذا التعبير الذي ربما يكون مصطلحاً على وزن “إسلاموفوبيا” ترددتُ في استعماله، وهو اشتقاقٌ مركبٌ جديدٌ، كان يمكن الاستعاضة عنه بتعبيرٍ عربيٍ خالصٍ، مثل “رهاب الإصلاح” أو “الخوف من الإصلاح”، لكن وجدت أن وقعَهُ في الآذانِ والأنفسِ، واختصارَهُ لمعناهُ، وسيلةٌ لا بد منها لتثبيتِ الموضوعِ الذي أطرُقُهُ في الأذهانِ.

نحن نستعرضُ خوفاً مركباً اختيارياً، يقومُ على عواملَ أهمها تجربةٌ أو تجاربُ سابقةٌ فيها صعوباتٌ أو فشلٌ أدى إلى إيثارِ السلامة، وعدم الدخول في مساعٍ إصلاحيةٍ، وإلى تجنُّبِ الحديثِ عن المشاكلِ، وتجاهلِ أخبارها، والامتناعِ عن إبداءِ الرأيِ أو الشهادةِ فيها، وإن هذه السلامةَ التي ذكرتُها أعلاه هي في الغالبِ من نوع راحةِ البالِ والحفاظِ على رماديةِ الصورةِ، ورأس المالِ المختلطِ من العلاقات أو النظرةِ والتفاعل العام.

هذا الإشكالُ أو المرض ليس منحصراً في زمانٍ أو مكانٍ، ولا في حضارةٍ أو ثقافةٍ معينةٍ، إنما يوجد حيث تتحقق أسبابه، ومن أهم أسبابِه كيدُ شياطين الجنِّ والإنس الصادِّين عن سبيل الله، المعيقين صلاحَ الأممِ، المحاربين الإصلاحَ وأهلَه، وضعفُ البشرِ ابتداءً من أبيهم آدم عليه السلام، من جهة النسيان الذي يحتاج الذكرى، وفقدانِ العزم الذي يحتاج التجديد، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه : 115]، وإن مواجهةَ المشاكل لحلها من التحديات التي يحجم عنها الأكثرون أو ينتقون منها الأقل تشعباً وتعقيداً.

في البلدان التي يحكمها الاستبدادُ السّافرُ أو المقنع، عندما تحدث مشكلةٌ بين طرفين يبادر الشُّرَطُ إلى سجنهما معاً، الظالمَ والمظلوم على كل حالٍ، وإن ادعى المظلوم يُغرون الظالم أن يدعي أيضاً، بهدف حلِّ المشكلةِ بالصُّلح الإجباريِّ بأسرعِ وقتٍ وبلا تحقيقٍ ولا انتقالٍ إلى مكانِ الحدث، ولا سماع شهودٍ، ولا تحويلٍ إلى النيابة العامة ولا القضاء، وهذه الطريقة متفقَ عليها بين هذه الجهات كلها، من باب: احبسوا الخصوم حتى يصطلحوا رغماً عنهم، وهكذا تبقى المشاكلُ والأحقادُ، وتتكرر المشاكل والخصومات وتتفاقم، حتى يقضي خصمٌ على الآخر، وهذه النتيجة مريحةٌ نهائياً للجهات المختصة، وإن كل ما سبق ناتجٌ عن خبرةٍ وممارسةٍ عمليةٍ، تحبِّبُ إليهم طريقةَ إخفاءِ الكناسةِ تحت البساط.

فيما أعلم أن هذه الطريقة منتشرةٌ في معظم بلدان منطقتنا، وناجحة في حلِّ المشاكل ظاهرياً في ساعاتٍ أو يومِ وليلة، لتبقى هذه المشاكل مهما صغرت سنواتٍ طويلة، تتراكم وتكثر وتمزقُ المجتمع، وبالتالي تطفو صورةٌ وهميةٌ يحب أن يرسمها المتصدرون للشأن العام، الذين اختاروا التعرُّضَ للمشاكل الأسهل، بين مجتمعٍ مقاومٍ متماسكٍ وعدوٍّ خارجيٍّ واحدٍ أو متعددٍ، المفاصلةُ معه تامةٌ وصفريَّةٌ، لا تحتاج إلى تحقيقٍ وتدقيقٍ وشهاداتٍ ومواجهةٍ بالحقائق، ولا يتسبَّب الحديث عنها بخسارةِ جزءٍ أو أجزاءٍ من المتابعين.

كان هذا مثالاً كمدخلٍ لتوضيحِ المراد، أما المثالُ الأبرز والأقرب عن الإصلاحوفوبيا، فقد رأيته تحقق في الثورةِ السورية منذ سنواتٍ، تحديداً بعد أن دخلت في سلسلةٍ من الخلافاتِ الداخليةِ والانكسارات بسبب الهجماتِ الخارجية، حتى حُشرت في الزاوية الشمالية الغربية، في حصارٍ دوليٍّ متعمد، وحصارٍ أو سجنٍ من قبل أبناءِ الأمة ونخبها المتصدرين، حيث زهد وابتعد العدد الأكبر منهم، وأصبحوا يتعرضون لأخبارها العامة كل مدةٍ ومدةٍ، من باب التعاطف وإثبات الأخوة الإسلامية بشكلٍّ عام، وفقط لا غير.

هذا الصدُّ في الغالب بسبب تجربةٍ عمليةٍ صعبةٍ، كان للواقع المختلط الشائكِ أثرٌ في إفشالها أو إرهاق أصحابها، عندما حاولوا قراءة المشهد والعمل على إصلاحِ ما أمكن منه، وقت كان انتشار الثورة أوسع وأمل انتصارها أكبر، ولكن كثرت الجحور ولدغها، وكان لمن تصدر وتصدى من أهل الشام وغيرهم نصيبٌ وافرٌ منه، فجعل يتناقص عدد المهتمين بشأن الثورة السورية تدريجياً، حتى تكاد تنعزل عن الأمة لا بسببها، بل بسبب عددٍ من أبنائها وأبناء الأمة من العلماء والوجهاء والناشطين المحجمين المقصرين!.

الأدهى والأمر هو سجنُ علماءِ ومفكري الثورة وأبنائها العاملين المخلصين المظلومين، في نطاقٍ ضيقٍ وعدم التعامل معهم أو السماع منهم، تبعاً لتجاهل الظالمين الذين كان لهم الدور الأكبر في توهين الثورة والفت في عضدها وتسليم المناطق التي سيطرت عليها لأعدائها، وعلى رأسهم ومقدمتهم عصابة الجولاني.

ترى أن النخب المتصدرة على مستوى الأمة، إن لم تنخدع للجولاني وعصابته، تمتنع عن الحديث بشأن جهاد الشام، وتمتنع عن التواصل والتفاعل مع المؤثرين من غير هذه العصابة، هرباً من نصرةِ المظلوم التي تحتاج إلى تحقيق وتدقيق وشهادات ومواجهة للظالم وتعريته أمام العالم، وأمام من يتبعونه في ضلاله ويظنون أنه يحسن صنعاً.

هذا المثال الشامي وهو المقدَّم على غيره لأسباب أهمها مركزية هذه القضية، له أمثال كثيرة في بلدان أخرى، يُترك أبناؤها الصادعون الصادقون، ويستمر تصدير الظالم الذي يمتلك القوة والآلة الإعلامية، أنه المسيطر والمجاهد المدافع عن المسلمين، بينما هو أولُ وأكبر خطرٍ يتهددهم، وهو في حال السيطرة المطلقة نموذجٌ مصغرٌ عن الأنظمة التابعة للنظام الدولي، بنفس خططه وطرق عمله لإفساد الشعوب واحتوائها، بمرابطَ محليةٍ معاديةٍ لها، يضطر الخاذل المقصر للاعتراف بها والتعامل معها من باب الأمر الواقع، بينما تنشغل في رسم صورةٍ ماديةٍ مغريةٍ فوق أقبيةٍ وسجونٍ مرعبة.

ثم يتساءلون عن الثورة وما أوصلها إلى هذا الحال، لكن يتساءلون بين بعضهم البعض أو في قرارةِ أنفسهم، ولا يتجشمون عناء إخراج النخب الثورية الصادقة من سجن إهمالهم وتجاهلهم، ولا يتكلمون بما يعرفون من الحق، لمصلحةٍ موهومةٍ يرونها في السكوت، وهي مفسدةٌ في الحقيقة تساهم في تعطيل وتأخير الإصلاح وتعرقل أهله، وتجعلهم في دائرة الاتهام، شأن الظالم والمظلوم المسجونين حتى يُسقطا حقوقهما المتبادلة في المخفر، وتستمر المشاكل وتتفاقم، والسبب الإصلاحوفوبيا.

نرى كيف يركز المتصدرون لمخاطبة أبناء الأمة على مواضيع مهمةٍ، من الدعوة إلى مواجهة الأعداء حرباً، والتصدي للأنظمة التابعة للعدو التي تحكم المسلمين قهراً واستبداداً، إلى التوعية ضد مشاريع التغريب التي تستهدف الدين والأسرة، لكن لا نرى منهم جهداً ضد الظلمة والعملاء الذين يندسون بين المجاهدين، ويقومون بهذه الأدوار التخريبية مجتمعة في السر والعلن، وبدلاً من أن يسارع العالِمُ إلى معرفة الفتنة والتحذير منها، يتأخر خلف عوام الأمة وشهداء الحق فيها، الذي يسبقونه بمراحل ويأبى اللحاق بهم، مما يزيد من حالة الانفصامِ والابتعاد.

إن تحرر الأمة من أغلالها، والنهوض لدحر أعدائها، لن يكون بغير تفتيت حلقات التقييد والتحييد، وقطع مرابط الاحتواء والإلهاء، وإنها من جنسنا ومن أبناء جلدتنا الذين لا بد من مواجهتهم بقوةٍ تتناسب طرداً مع مستوى فسادهم وظلمهم أو عمالتهم، فالتجاهل والمجاملات لا تزيد الواقع المشوه إلا تشوهاً، وتكرس الإعاقة التي يعد مرضى الإصلاحوفوبيا السبب الأكبر في استمرارها.

إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يحتاج إلى شجاعةٍ وإقدامٍ، وثباتٍ شرعيٍ وفكريٍ، أكثر مما يحتاجه جهادُ العدوِّ الكافر، وإلا لما ارتفعت منزلة صاحب كلمة الحق عند سلطان جائر، ولما كان إصلاح ذات البين أفضلَ من درجة الصلاة والصيام والصدقة، ولما كانت نصرةُ المظلومِ على أي ظالمٍ من أوجب الواجبات على المسلم، ثم إن آتاه الله القدرة على النطق وخوَّله قول كلمة الحق، سيسأله عنها، لماذا قالها غيرَ واضحةٍ بيِّنةٍ، أو قالها في بابٍ ومنعها في آخر مع وجود القدرة ويسر البيان والتبيين، كما أن مجال التعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والتواصي بالصبر مفتوح، لكل من يلج، إلا من خاف على نفسه بعض لأوائه وعناء التثبت فيه، فهذا من المستسلمين لهذا الداء، نسأل الله العفو والعافية.

اللهم أصلح شأننا، وأصلح بنا، وانصرنا على أعدائك وأعدائنا.

Exit mobile version