الأستاذ: أبو يحيى الشامي
بعد ضعف ثم قوة ثم تمكين، أنهى الإسلام حكم الجاهلية في جزيرة العرب وامتد إلى فرنسا غرباً وإلى الصين شرقاً، لكن الجاهلية العالمية لم تنتهِ، وبقيت الحرب بينها وبين الإسلام سجالٌ، وكلٌّ يحكم ما يلي من بلدان.
حتى دخل حكم الجاهلية بلاد المسلمين تباعاً، وأحكم السيطرة عليها مطلع القرن الماضي، بعد القضاء على دولة الإسلام الجامعةِ، وتمزيق المسلمين في دول ودويلاتٍ تُحكم بهذه الجاهلية، اللهم إلا ما قدر الله وهدى من طائفة الحق المنصورة التي تثبُتُ بفضل الله إلى قيام الساعة، وهم اليوم غرباء في بحرٍ من الغثاء.
تحدث الكثيرون عن هذه الجاهلية، ومن أبرزهم سيد قطب -تقبله الله-، قال في كتاب معالم في الطريق: (الأفراد “المسلمين نظرياً” سيظلون يقومون “فعلاً” بتقوية المجتمع الجاهلي الذي يعملون “نظرياً” لإزالته، وسيظلون خلايا حية في كيانه تمده بعناصر البقاء والامتداد!، وسيعطونه كفاياتهم وخبراتهم ونشاطهم ليحيا بها ويقوى، وذلك بدلاً من أن تكون حركتهم في اتجاه تقويض هذا المجتمع الجاهلي لإقامة المجتمع الإسلامي!).
هذا الاقتباس أنقله هنا لأنه يعبر باختصار عن مشكلة مستمرة عند جماعات وأشخاص من المسلمين بالمقالِ والفعالِ، وهم يمثلون الأكثرية حقيقةً، هذه المشكلة هي الشعورُ بالهوية والانتماء الإسلامي، والرغبةُ النظرية في الخضوع لحكم الشريعة، لكن التطبيق العملي يكون لصالح الجاهلية الوطنية والدوليةِ، والأولى جزءٌ من الثانية.
تطور القانون الدولي انطلاقاً من الأعراف الدولية، وقننت قواعده من خلال المعاهدات الدولية الجماعية بنسبة أكبر من تلك الثنائية، وذلك كان في الثلاثة قرونٍ الأخيرة وهو مستمر.
أكثر قواعد القانون الدولي تقنيناً كانت بعد الاستقرار الذي عقِبَ الحرب العالمية الثانية، حيث قامت منظمة الأمم المتحدة كشخصيةٍ اعتبارية دولية تضم مندوبي دول العالم، وكل ذلك التطور الكبير جرى في وقت ضعفِ المسلمين وغياب من يمثلهم بأمانةٍ، وقوةِ الكافرين وحضورهم، مما جعل هذه القوانين الجامعة بشريةً مصلحيةً جاهليةً بامتياز، أحد أهم أهدافها محاربة المسلمين ومنعهم من استعادة حكمهم الشرعي.
هذا القانون الذي يَحكمُ الدول، فصَّلته الدول الكبرى على رغبتها ومقاسها، تُعمله وتُهمله حسب مصلحتها، وتخدع به الدول والشعوب الأخرى، حتى ينهض بعض المسلمين الضعفاء وربما البسطاء ليطالبوا بتطبيق بنوده والقرارات الصادرة عن مؤسساته، رغم أن القانون الدولي الذي يجب أن نخضع له أنزله الله عز وجل وأمر به.
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- في الشرح الممتع (14/112): “بل القانون الدولي العام هو قانون الله عزّ وجل وليس لأحد من عباد الله أن يُقنِّن في عباد الله ما ليس في شريعة الله فالحكم لله عزّ وجل وحده، كما قال تعالى: }إِنِ الْحُكْمُ إِلّا للهِ{ [يوسف: 40]،… وعلى هذا نقول: إن القانون الدولي العام والشعبي الإفرادي هو قانون الله عزّ وجل، الذي شرعه لعباده، وكل القوانين سوى ذلك فإنها باطلة؛ لأنها ناقصة وقاصرة، حتى لو اجتمع أذكياء العالم على مشروعيتها فإنها ناقصة قاصرة”.
في معرض دراسة القانون الدولي قرأت الكثير من الانتقادات لهذا القانون من غير المسلمين؛ لأنه لا يحقق العدالة ولا المبادئ والشعارات التي ينادي بها، كل القانون الدولي منتقد بكل أقسامه، ومنها القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، والأخير يعد أقربها إلى الشريعة الإسلامية فهي من أكبر مصادره، وهو في المعنى الدقيق قانون حقوق الإنسان زمن الحرب.
يعد بعض المسلمين -ومنهم يحسبون على الجهاد “لإقامة شرع الله”!- التغني والمناداة بالقوانين الدولية وقرارات المنظمات الدولية سياسةً، واتساقاً مع الواقع الحتمي، وفي الحقيقة هو انسياقٌ مع تيار التنازل عن ثابت التحاكم إلى الشريعة وحدها بما فيها من بعض التوافقات مع قوانين أخرى، واستعدادٌ للخضوع لهذه القوانين بما فيها من باطلٍ وظلمٍ وجورٍ مُحقَّق، جرياً خلف سراب عدلٍ وانتظامٍ لا وجود له، رأى العالم بأسره ذلك رأي العين، فالحقيقة في النظام الدولي الحالي هي القوة لا شيء غيرها.
القانون الدولي الحقيقي، هو ما يفرضه واقع التفاوض والتفاهم بالقوة بين الدول والشعوب، الأقوى يفرض قواعده، والقادر على الدفاع عن حقوقه يحصل عليها، أما الضعيف والخانع فلا ينفعه الالتزام ولا دعوة غيره إلى الالتزام بحبر على ورق، فإن كان مسلماً فهو ينقض بذلك ركناً من أركان دينه إن كان مقراً بصلاح هذه الجاهلية قابلاً بها.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء : 60].
لقد كان هناك أرضية فطرية أخلاقية مشتركة، لا يختلف فيها حكم الله عن بعض ما كان عليه الناس في الجاهلية من موروثات الرسالات الأولى، واليوم هناك بعض الأمور التي تصلح من القوانين الوضعية -على قلتها- فهذه القلة أساساً مستمدة من الفطرة والدين الحق، فمن استطاع أن يعزلها وينكر غيرها فليفعل، وهذا مستحيل، ثم إنه من الإسفاف بالعقول أن يشرب الخمر لأنه خلط بقليل من الماء.
لم أكتب في هذا الباب سابقاً -رغم تخصصي- بسبب جلاء صورة الجاهلية اليوم وبطلان قوانينها، شهد بذلك الكافر قبل المسلم، لكن المفارقة العجيبة أن من يلهَجُ بسبِّ هذه الجاهلية، والتبرُّمِ والتذمر منها ومن ظلمها يبدي استعداده للالتزام بها، ويدعو الناس إليها!، ويحتج بالضرورة و”الاعتبارات” مع الاعتذار بعدم الإيمان القلبي والرضا بها، وهذا منكرٌ وزورٌ لا بد من التصدي له بالبيان والإنكار.
من الأمثلة الحاضرة، قيام بعض ناشطي وإعلاميي الثورة السورية بالتَّذكيرِ بالقانون الدولي لحقوق الإنسان (وهو من أكفر وأفسد القوانين الدولية)، وبقرارات الأمم المتحدة بشأن الثورة السورية، والتي مؤداها إن نُفِّذتْ قيامُ دولةٍ علمانيةٍ تعدديةٍ ملتزمةٍ بالجاهلية بكل تفاصيلها محاربةٍ للشرع بكل تفاصيله، يطالبون بتنفيذها، ويبدون الاستعداد للالتزام بها، ويدعون الناس لهذا الالتزام!… والعياذ بالله.
إن كل الملك لله، والقدر من تقدير الله، والنصر بيد الله، فعلى من يؤمن بذلك أن يلتجئ إلى الله، وأن يطلب رضا الله ولو أسخط المخلوقين، فإن اضطر غير باغ ولا عاد إلى تقيَّةٍ، أو قال كلمة من الكفر كارهاً مكرهاً فهو معذور، لكن هذا الحكم للفرد لا للأمة، ولا عذر لمن ينادي بين الناس بما يضلهم، فكيف بمن يدعو إليه؟!.
إن كان هذا حال من بطش به النظام الدولي، وتنكب لحقوقه ومنعه منها، وحارب دينه، ودمر بلده، وقتل أهله، ولاحقه بتهمة الإرهاب المُسيَّسة المزورة، ورأى الحق رأي العين ولمسه بيده، فكيف بمن هو آمن مطمئن في بلد مستقر من البلدان التي تُحكم وتَحكم بغير ما أنزل الله؟!.
يعز عليَّ أن أقسو على من ضل طريقه وهو لا يقصد الباطل بعينه، ولكن دين الله أعز، فهلا تعلم من لا يعلم، وهلا نظر الساعي أين يضع قدمه، ففي زمن الفتن كثيراً ما تزل الأقدام، وهلا عاد من ضل قبل أن يبتعد، اللهم إنا نسألك العفو والعافية.
{وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل : 94].
هذه مقدمة، نكمل إن شاء الله.
{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88].