أيها المبتلى تدبر القرآن “الفاتحة أنموذجًا” -الركن الدعوي – مقالات مجلة بلاغ العدد ٦٥ – ربيع الأول ١٤٤٦ هـ

الشيخ: محمد سمير

تأملت في سورة الفاتحة فرأيت فيها دواء عجيباً للبلاء، فأنت تقرأ لتجد حمد الله أولًا فتعلم أن الله يستحق الحمد في كل حال، الحمد المستغرق لجميع أنواعه فهو تبارك وتعالى يحمد في السراء والضراء وليس حمده في السراء بأولى منه في الضراء فإنك إن تجردت وأمعنت النظر في حالك لوجدت أن نعمه عز وجل محيطة بك حتى وأنت في ضرّائك ولست أعني هنا النعم العامة بل أعني النعم الخاصة في البلاء الذي أنت فيه فأول ذلك أن ألهمك الله الصبر في البلاء ورزقك التضرع بين يديه ومناجاته والإلحاح بالدعاء ومنّ عليك بكثرة ذكره وتعلق القلب به تبارك وتعالى دون سواه من المخلوقين الذين لا يملكون لأنفسهم فضلًا عن غيرهم نفعًا ولا ضراً ثم نعمته جل وعلا أن جعل المصائب كفارات لذنوب عباده وليس من مصيبة تقع إلا بذنب {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30] {وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء:79]، فإذا علمت هذا تفكرت في ذنوبك التي جنيتها وما غاب عنك أعظم مما تذكرت فأحدثت لذلك توبة ولجأت إلى مولاك تائبًا راجيًا أن يغفر لك الذنوب جميعًا {وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135] ورفعت يديك متوسلاً «اللَّهمَّ اغفِر لي ذنبي كُلَّهُ دِقَّهُ، وجِلَّهُ، وأوَّلَهُ وآخرَهُ وعلانيتَهُ وسِرَّهُ».

ثم تأمل في جعل البلاء الذي أنت فيه بهذا المقدار ولو شاء الله لجعله أضعافًا مضاعفة ولزاده أمثاله فله الحمد على لطفه بعباده ورأفته بهم ورحمته لهم وإنك لواجد في البلاء تربيةً خفيةً من الله لعبده فبالبلاء تكشف أمراض خفيةً كامنةً في القلب كان العبد في ذهول عنها وبالبلاء تزال رعوناتٌ نفسيةٌ لو استمرت لأهلكت العبد فلله الحمد على نعمه المترادفة المتوالية الجلية والخفية.

وفي البلاء تأتي منحٌ ربانيةٌ وألطافٌ إلاهيةٌ تُشعر العبد بمعية الله فيقوى عزمه ويرسخ يقينه ويشتد عوده ولذلك إياك أن يوسوس لك الشيطان أن تتهم الله في قضائه وتدبيره لك، وإن العبد تمر به ساعات يشتد عليه البلاء فيُكثر من اللجوء إلى الله والتضرع إليه والدعاء والافتقار والتذلل ثم لا يرى إجابةً لدعوته الخاصة فيُلقي الشيطان في قلبه شيئًا من الحيرة أو التسخّط فيتدارك الله برحمته ولطفه عبده فيكشف له عن شيءٍ يسيرٍ من حكمته عزو وجل في تأخير إجابة الدعاء فيرفَضُّ جبين العبد حياءً من الله تبارك وتعالى ويلهج لسانه بالذكر والاستغفار والحمد ويعلم أن كل قضاء الله خيرٌ.

وثمة نِعمٌ أخرى في البلاء يسترها الله عن العبد رحمةً به وحسنَ تدبيرٍ له حتى لا تودي به إلى أمراضَ قلبيةٍ مهلكةٍ كالعجب والكبر فيبقى العبد في أمس الحاجة أن يقول دائمًا: “الحمد لله”.

ثم إنك تقرأ قوله تبارك وتعالى {ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] فتعلم أن من تسمى بهذين الاسمين الكريمين ومن اتصف بالرحمة وقد وسعت رحمته كل شيء ومن أخبر عنه نبيه عليه الصلاة والسلام أنه أرحم بعباده من الأم بولدها ما ابتلاك إلا لمصلحتك، وأن في هذا البلاء أدويةٌ جمةٌ لك وما أخر كشف البلاء عنك إلا ليزيل عنك شوائب النفس التي لا تُزال إلا بذلك فهو جل وعلا خيرُ طبيبٍ وأرحمه وأرفقه وإذا علمت ذلك استعذت به من الشيطان الذي يريد بك إساءة الظن بربك جلا وعلا فالخير كله من الله والشر ليس إليه.

 ثم تقرأ قوله {مَٰلِكِ يَوۡمِ ٱلدِّينِ} [الفاتحة:4] فيا الله ما أحلى وقع هذه الآية على الأنفس المبتلاة فيوم الدين هو يوم الجزاء والحساب والدنيا بالنسبة إليه كقطرة من بحر، وهو تعالى مالك الدنيا والآخرة جميعًا وإنما خص يوم الدين هنا لأنه اليوم الذي تنكشف فيه الحقائق وتتساقط الدعاوى الزائفة ويُعرى الطغاة عن القشور التي كانوا يخادعون بها الناس في الدنيا {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16]. فإذاً ربنا على كل شيء قدير ولا يعجزه شيء وكل شيء ملكه وملكه لا ينفد ولا ينتهي فإذا شعرت أن البلاء قد طال عليك فليس ذلك عن عجزٍ في الرب-حاشاه- بل حتى ينتهي الأمد الذي حدده جل وعلا بحكمته ورحمته ثم إنك تلمح في هذه الآية ما يصبرك ويقويك وهو أن يوم الدين سيأخذ كل ذي حقٍ حقه وينتصف كل مظلوم من ظالمه «حتَّى يُقادَ لِلشّاةِ الجَلْحاءِ، مِنَ الشَّاةِ القَرْناءِ» صحيح مسلم، فإن فاتك في الدنيا أخذ حقك من ظالمك فلن يفوتك في الآخرة في يوم أحوج ما تكون فيه إلى حسنة والتقاص هنا بالحسنات والسيئات والظالم يومها إن كان له حسنات أخذ من حسناته وإن لم يكن هناك حسناتٌ أخذ من سيئات المظلوم فطرحت عليه ثم طرح في النار.

وبعد أن تقرأ هذه الآيات الثلاثة وهي كلها في تحميد الرب وتمجيده وتعظيمه يلوح في ذهنك سؤالٌ ماذا أفعل فيأتي الجواب في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] أنت عبدٌ لمولاك تبارك وتعالى وعليك الاشتغال بما خلقت له لا ما خلق لك، فقد خلقت للعبادة {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] فانشغل إذًا في هذا الأمر الجليل الذي خُلقت له واحرص على أدائه على أكمل الوجوه وأتمها وأحسنها ولست بمستطيع لذلك إلا بمعونته ولذلك ناسب جدًا أن يأتي بعدها {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] فأنت في أمس الحاجة لمعونة الله عز وجل في جميع أمرك فإن الله تعالى لو تخلى عنك طرفة عين لهلكت في أودية الشبهات وفي مستنقعات الشهوات ولذلك كان من أعظم الدعاء الذي علمه النبي عليه الصلاة والسلام للأمة «يا حي يا قيوم برحمتك استغيث اصبح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين».

ولا شك أن المبتلى أحوج إلى الاستعانة إلى ربه جل وعلا فإنه قد اكتنفه خطران لا نجاة منها إلا بالله عز وجل وهما: فقدان الصبر والجزع ويتولد عن ذلك من الشرور والآثام أو العجب بالنفس إن صبر وما يتولد عن ذلك من أمراض القلوب وآفاتها فهما مهلكتان بينهما صراطٌ مستقيمٌ وهو الصبر مع تعليق القلب بالله والتبرؤ إليه من الحول والقوة.

وهنا تعلم لماذا كانت «لا حَوْلَ ولَا قُوَّةَ إلَّا باللَّهِ كَنْزٌ مِن كُنُوزِ الجَنَّةِ» فهي تُطلع العبد على حقيقة ضعفه وعجزه وأنه لا قدرة له على شيء إلا بربه فإن أعانه وقواه وإلا تردى في مهاوي الردى وتاه في متاهات الضلال ولذلك ناسب أن يأتي بعدها قوله {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] فالسبل كثيرة وكلها حاشا صراط الله تؤدي إلى جهنم قال تعالى: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] وقد حدث النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في حديث ابن مسعود رضي الله عنه بأنه خطّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً مستقيماً وخطّ عن يمينه وعن يساره خططًا صغارًا ثم قال هذا صراط الله وهذه الخطط عن يمينه ويساره السبل ثم قرأ الآية {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} [الأنعام:153].

فالدنيا مليئة بالفتن والدعاة إليها يزينونها بألوان تستهوي النفوس ولا خلاص من ذلك إلا بطلب الهداية من الله وقد تكون الفتن شبهات وقد تكون شهوات وقد تكون تفريطًا وقد تكون إفراطًا ولا يبالي الشيطان بأي ذلك أوقع العبد ولذا كان من دعائه في صلاة الليل عليه الصلاة والسلام «اهدِني لما اختُلِفَ فيهِ منَ الحقِّ بإذنِكَ إنَّكَ تهدي من تشاءُ إلى صِراطٍ مستقيمٍ» والمبتلى متعرضٌ للفتن وقد تُسول له نفسه أو يزين له شيطانه أن هذا البلاء يزول بتنازلك عن شيءٍ من الحق أو مداهنتك فيه فيسارع بالانطراح بين يدي ربه يسأله الهداية ويستجيره من اتباع سبل الضلال وحتى لا يستوحش العبد من قلة السالكين للصراط المستقيم ناسب أي يأتي بعدها قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] فكأنّ حجبَ التاريخ انكشفت أمام بصيرة العبد فرأى من قبله من المنعَم عليهم وهم يمشون على هذا الصراط المستقيم رأى {النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء:69] فاطمأن لذلك قلبه وقويت نفسه واشتدت عزيمته وقد تنكّبَ هذا الصراط صنفان أحدهما: عرفه لكن ازورّ عنه عمدًا، والآخر: جهِلهُ فمضى يتخبط في الظلمات فجاء قوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] فالمغضوب عليهم هم اليهود والضالون هم النصارى كما صح عن النبي عليه الصلاة والسلام والعناد في اليهود أكثر ولذا استحقوا أن يكونوا مغضوبًا عليهم، والتيه والتخبط في النصارى أكثر ولذا استحقوا أن يوصفوا بالضلال وبين هؤلاء وهؤلاء صراط الله المستقيم..

اللهم ثبتنا عليه حتى نلقاك آمين آمين آمين.

Exit mobile version