الأستاذ: غياث الحلبي
في بيت طيني صغير في قرية متواضعة فقيرة ولد أحمد عصام ليملأ البيت فرحا باستهلاله؛ فقد كان الطفل الأول لأبويه بعد ستة عشر عاما من الزواج.
كان والده يعمل موظفا في دائرة حكومية في المدينة، ولذلك كان مجبرا على الذهاب صباح كل يوم إلى المدينة في حافلة تقلهم في السادسة صباحا وتعيدهم في الثالثة ظهرا، أما والدته فامرأة ريفية جاهلة، ولكنها طيبة القلب جدا لا تعرف غلا ولا حقدا ولا حسدا، وقد وهبت حياتها لبيتها وأسرتها.
بعد أن كبر أحمد قليلا وتأهل للدخول في المدرسة ارتأى والده أن تنتقل الأسرة لتعيش في المدينة فيتخفف أبو أحمد من عناء السفر اليومي ويتاح لأحمد التعلم في مدارس المدينة والتي هي أجود من مدرسة قريته التي يغلب فيها الإهمال.
بحث أبو أحمد عن منزل مناسب في المدينة فعثر على منزل صغير يصلح لأي شيء إلا سكنى الآدميين، فهو في قبو تحت الأرض سيئ التهوية لا تزوره الشمس إلا في أيام معدودة في العام، ومستوى الرطوبة فيه عال، إضافة إلى أنه مسكن لعدد من الحشرات والزواحف والقوارض وأشياء أخرى من هذا القبيل.
ولكن ماذا يفعل فليس باليد حيلة؛ فأسعار البيوت في المدينة مرتفعة جدا وأبو أحمد يريد لولده تعليما جيدا، ولذلك باع بيته الطيني وقطعة أرض صغيرة ورثها عن أبيه وانتقل إلى السكنى في هذا البناء العجيب الذي يدعى كذبا وزورا بيتا.
كانت الحياة في هذا المسكن غاية في الصعوبة؛ فقد أنهكت الأمراض أجساد هذه الأسرة النحيلة بسبب الرطوبة وعدم التعرض لأشعة الشمس، ولحل هذه المعضلة فقد ضاعف أبو أحمد عمله ففي الصباح يذهب إلى وظيفته، وبعد الظهر يعمل حمالا في سوق الخضار على الرغم من مرضه؛ فقد كان يعاني من مشاكل قلبية مزمنة، كما تقوم أم أحمد بنسج بعض الألبسة بمغزلها، وبعد أربع سنين من العمل الشاق المتواصل تهيأ لأبي أحمد أن ينتقل إلى بيت أفضل بكثير من بيته، ومشكلته الوحيدة أنه صغير جدا، فهو يتكون من غرفة واحدة ومنافعها فقط، فهذه الغرفة هي للطعام والجلوس والنوم وللضيوف أيضا، وعندها يتوجب على أم أحمد أن تمكث في المطبخ ريثما ينصرفوا، وعلى أي حال فقد كان قدوم الأضياف قليلا لمعرفتهم بحال البيت والبيئة.
ومرت الأعوام وأحمد يرى ما يعاني والداه من أجل تربيته وتعليمه، ويشعر بثقل التبعة الملقاة على عاتقه، فكان يحرص على التفوق دائما في دراسته.
وكان أشد ما يؤلمه أن والده يرفض مساعدته ويقول له: اعتن بدراستك فقط، فهذه أكبر مساعدة لي.
– ولكني يا أبي أستطيع التوفيق بين دراستي ومساعدتك.
– لا يا بني، ما زلت قويا وأريد أن أراك طبيبا ناجحا وأفرح بك.
نال أحمد الشهادة الإعدادية بتفوق باهر، وبينما هو يستعد لدخول المرحلة الثانوية قصم ظهره بوفاة والده بسكتة قلبية، وأظلمت الدنيا في عين أحمد ووالدته، وغزت جيوش حزن سويداء قلوبهما، لقد انهد ركن الأسرة الأعظم، ولكن هذه سنة الله في كونه، والحزن لن يعيد فقيدا، ولن يرجع حبيبا، فليكن التصبر والتجلد.
رأى أحمد أنه لا بد من ترك الدراسة ليعمل من أجل الإنفاق على نفسه ووالدته؛ إذ الفرع العلمي في المرحلة الثانوية يحتاج تفرغا وأموالا؛ إذ إن الدروس الخصوصية ليست بالوسع الاستغناء عنها، ومرتب أبيه الذي تقبضه والدته لا يكفي لسد الرمق.
أخبر أحمد والدته بعزمه، ولكنها ثارت عليه ثورة عارمة، وقالت له: بعد كل ما بذلنا من جهود تريد أن تترك دراستك؟ هذا لن يكون أبدا.
– ولكن يا أمي من أين سنعيش؟
وحارت الأم في الإجابة على هذا السؤال فلاذت بالصمت وأخذت تفكر بعمق لحل هذه المعضلة، إلا أن همَّ ولدها بالخروج قطع عليها تفكيرها.
– إلى أين أنت ذاهب؟
– لأبحث عن عمل.
– قلت لك: لن تترك دراستك، يجب أن تتابع.
– ولكن يا أمي..
– دعني من لكن، عندي أرض ورثتها عن أبي سأعرضها للبيع وننفق من ثمنها.
– وبعد أن ينفد ثمنها يا أمي؟
– الأرض كبيرة وثمنها جيد، ولن ينفد ثمنها قبل إتمام دراستك.
وصدق أحمد كلام والدته، وظن أن لديها أرضا فعلا، وفي الصباح كان أحمد يستعد للذهاب مع والدته إلى القرية لبيع الأرض، ولكنه فوجئ برفض والدته الشديد لمرافقتها بل لتوصيلها إلى الحافلة، فلم يكن أمامه إلا الإذعان لرأي والدته والذهاب إلى مدرسته.
عادت والدته مساء لتخبره أنها عرضت الأرض للبيع وأن طلابها كثر، وسعرها جيد، وهي تنتظر السعر الأعلى لتبرم العقد، وصدق أحمد كلام أمه.
كان أحمد يخرج صباحا إلى المدرسة فيمكث فيها إلى الظهيرة ثم يعود إلى المنزل ليتناول طعامه ثم يذهب إلى معهد الدروس الخصوصية ليمكث فيه إلى قبيل غروب الشمس، إلا أن طلبا غريبا من أمه واجهه ذات صباح.
– أحمد من الآن فصاعدا لا ترجع إلى البيت ظهرا بل خذ طعامك معك فكله في المدرسة ثم اتجه مباشرة إلى المعهد.
– لماذا يا أمي؟
– لا أريدك أن تضيع وقتك في الذهاب والمجيء، يجب أن تتفوق لتدخل كلية الطب كما كان يريد والدك رحمه الله.
صدق أحمد كلام أمه كالعادة واستجاب لطلبها.
عشر سنين كوامل مرت حتى أنهى أحمد دراسته وتخرج من كلية الطب وصار طبيب أطفال، واستأجر مبنى -من بقية ثمن الأرض المزعومة- وافتتحه عيادة، ورغبت إليه والدته أن تجلس معه في العيادة أول افتتاحها لترى ثمرة تربيتها وتعبها.
فرحب أحمد بذلك جدا وأسعده أن يدخل السرور على قلب أمه.
يسر الله لأحمد أموره وراج اسمه بين الناس وذاع صيته فرزق رزقا حسنا واسعا.
وذات يوم وبينما أحمد جالس في عيادته مع أمه؛ إذ دخلت امرأة فقيرة مع طفل لها تريد معاينته، وأخذت تطلب من أحمد أن يرأف بحالها لفقرها، فرق لها أحمد وطلب نصف أجرة الكشف فقط.
وهنا حدث ما لم يكن في الحسبان؛ إذ احمرت عينا والدته حتى كأنهما الجمر واستشاطت غضبا، ولكنها كظمت غيظها، وقالت لابنها: أنا سأدفع عنها.
فخجل أحمد، وقال: لأجلك لن آخذ منها شيئا، ثم أجرى الكشف الطبي اللازم وكتب الوصفة الطبية وانصرفت المرأة.
فقامت أم أحمد خلفها فأغلقت الباب، ثم اتجهت إلى ابنها، فأمسكت بتلابيبه، وقالت له: أمجرم أنت؟ كيف تريد أن تأخذ مالا من امرأة فقيرة؟
فقال: يا أمي، نصف الكشف فقط، فهذه عيادة أكسب منها رزقي.
فدفعته بقوة، وقالت: رزقك؟ أتعلم ما معنى نصف قيمة الكشف؟ معناه تنظيف ثلاثة بيوت بمراحيضها وحماماتها وكل شيء فيها.
استغرب أحمد من أمه وكلامها ولم يفهم ماذا تعني، فقالت له وقد هدأ صوتها واكتسى مسحة من حزن وألم: نعم يا بني، إنها الحقيقة، لم تكن هناك أرض لأبي، ولم أرث منه شيئا، لقد كنت أذهب لأعمل في تنظيف البيوت وغسل سلالم البنايات لأنفق عليك.
والأغنياء يا بني جفاة قساة القلوب، كانوا يمتصون دمي في العمل وتنظيف أدق المداخل والزوايا، ثم يرمون إليَّ بالفتات، بل..، وسكتت الأم قليلا وتحدرت دمعة على خدها، ربما ضربني بعضهم لأن ذرات من غبار في تلافيف زخرفة لم تصلها أصابعي لتمسحها.
وتحملت كل هذه الإهانات والعذاب صابرة محتسبة، وأنت لا تعلم شيئا عن ذلك.
ثم عادت نبرة صوتها ترتفع، واكتست أسلوب الحزم والتهديد، وقالت: فإياك ثم إياك أن تأخذ من فقير يريد علاج ولده مليما، وإلا فإني بريئة منك إلى يوم القيامة.
صعق أحمد وهو يسمع هذا الكلام من أمه، إذن فقد كانت تعمل خادمة طوال عشر سنين، ولذلك طلبت منه ألا يعود إلى البيت ظهرا؛ لأنه لن يجدها، وليبقى السر مكتوما.
فقال: ولكن لماذا كل هذا يا أمي، لماذا فعلت ذلك؟
– لئلا تذوق ما ذقته وذاقه أبوك من التعب والشقاء يا بني، فكن رحيما بالفقراء وخاصة اليتامى والأرامل فهم يحملون آلاما تعجز عن حملها الجبال، هيا عاهدني يا بني ألا تأخذ من فقير أو فقيرة شيئا إذا أتوا طالبين العلاج.
– أعاهدك أعاهدك أعاهدك
يا أمي.
انتهت.
لتحميل نسخة من المجلة يمكنك الضغط هنا
لقراءة باقي المقالات يمكنك الضغط هنا