هذه صورة أبي عبدالله الخولي (الحمصي) المشرف على حركة حزم (الأعقل فيها) عندما كانت، وهو يدلي باعترافاته حول قضية اغتيال الشيخ يعقوب العمر -تقبله الله- (كانت علاقة الشيخ يعقوب بحزم وصقور الشام وجبهة ثوار سوريا وكل تشكيلات الثورة في إدلب طيبة)، حيث استطاع الجلاد أن يرغم الخولي على تسجيل الاعترافات التي تلصق الجريمة بغير من اكتسبها ظلماً وبهتاناً وزوراً.
كنت التقيت الشيخ سفر السفر -تقبله الله- في بلدته خان السبل بعد استيلاء جبهة النصرة على حرش خان السبل المقر الرئيسي لحركة حزم، فأخبرني مؤكِّداً أنه أخذ “أكثر من عشر أمانات” لأبي عبدالله الخولي من القوم ألا يعتقلوه ولا يؤذوه، حيث دخل الخولي الحرش بعد سيطرة الجبهة عليه سلماً وكان الشيخ سفر موجوداً، لكنهم غدروا فاعتقلوه وآذوه وبهتوه وافتروا عليه، وهو من المجاهدين القدامى الذين كنت أعوِّل عليهم في إصلاح توجه حركة حزم وخدمة الثورة عموماً.
لم تكن علاقتي بحركة حزم جيدة، بسبب تقصيرهم في توضيح توجههم وإعلان مبادئهم، ولشيء من كِبر شاب تصرُّفاتهم (الخولي متواضع)، وليس لأنها مرتدَّة أو وقعت في مناط ردة كما أقنعت قيادة الجبهة عناصرها، فلا يوجد دليل لدى القوم أن الحركة وقَّعت على قتال الإسلاميين، كل ما هنالك دعم أمريكي تلقاه الكثيرون حزمٌ وغير حزمٍ، وتواصلٌ ورضاً دولي مرحلي وقع فيه من عَيَّر حركةَ حزمٍ وغير حركة حزم، هذا معلوم حتى عند غلاة الأتباع، لكنه عند الغير عمالةٌ وردَّة، وعندهم سياسةٌ واجتهاد، المعيار عندهم الغاية المعلنة، لكن المعيار الصحيح هو الشورى والرقابة العامَّة، فلا يُؤمَنُ على مُتفرِّدٍ مُستَخْفٍ الفتنة، ويمكن مراجعة التقلُّبات من تكفير المسلمين بغيرِ مكفِّرٍ حتى السَّماحِ للكفار المحاربين بدخول أرضهم بغير مسوغ، وكل ذلك في استعلاءٍ على أهل الشام وتهميشٍ لجمعهم وقدراتهم.
إلى الآن أي بعد ستِّ سنوات من انهيار حركة حزم يعبر هذا الاسم عن الرِّدَّة الخطيئة والجريمة عند القوم! رغم أن الأمر كان قتالاً بين فصيلين قصرت حزم فيه ولم تقصر الجبهة، ورغم أن الجبهة وحزم قاتلا جنباً إلى جنب في كثير من المعارك، ثم الذي يدافع عن حزم أو أحد منتسبيها مرتدٌ أو وقع في مناطِ ردَّةٍ أو على الأقل عنده لوثةٌ وغير مؤتمن، أحكام دون دليل ولا مستند، لذلك لم يجرؤ أحدٌ أن يدافعَ عن الخولي أو يطالبَ به إلا قلَّة من الأحرارِ الذين لا يتبعون القوم، رغم أن كل الناس سخِروا من الاعترافات التي أدلى بها الخولي مرغماً.
بعد مقتل الشيخ يعقوب العمر بمدة أتاني والد الشاب عبدالرحيم الحسن (أبو عبيدة تلمنس) وهو المتهم باغتيال الشيخ يعقوب العمر، يقول أن ابنه بريءٌ ويطلب مني مساعدته لكشفِ الحقيقة، وعندما تابعتُ الموضوع حصلت على معلوماتٍ تفيد بإدانته وتنفيذ القصاص فيه في بلدة خان السبل… ثم ظهر الخولي ليعترف بجريمة الاغتيال في مسرحية مضحكةٍ مبكيةٍ، فما لنرى هذا الظلم ثرنا وجاهدنا، بل لعكسه تماماً.
عند تشكيل هيئة تحرير الشام التقيت الشيخ عبدالرحيم عطون (أبو عبد الله الشامي) في ضيافة الشيخ المحيسني وحضور الشيخ أبي الحارث المصري والشيخ الفرغلي وغيرهم، فسألته لماذا لا تخرجون الخولي -وهو سؤال كررته كثيراً وأنا مع أحرار الشام قبل تشكيل الهيئة-، فقال رداً على السؤال الذي لا يجرؤ الكثيرون على النطق به: “الأمر عند الشيخ”، قلت له: إن الرجل بريء مفترىً عليه، فقال: “لقد تمت محاسبة الأمنيين الذين فعلوا هذا، لكن هناك مصلحة في بقائه في السجن الآن”، فقلت له: إذاً هو سجين سياسةً؟ قال: “نعم”، قلت في نفسي أن الأمنيين فعلوا هذا برضا وأمر الأمير الظَّالم، وأسررتها لأن إعلانها لن ينفع المعتقل، وقد كنا في أمل انطلاق المشروع الجامع الذي يحقق العدل وينصف الناس… عن نفسي أملت بسبب عدد كبير المصلحين في البداية، خرجوا تباعاً.
ظُلمُ الخولي بإقرار الشيخ عبدالرحيم عطون حكمٌ سلطانيٌّ لا يستند إلى مسوِّغٍ شرعيٍّ إلا اجتهاد الأمير، وتقديره للمصلحة، وهي مصلحته ومصلحة تنظيمه كما نعيها، لا مصلحة الدين والجهاد كما يدعيها، والكاذب من يدعي وجود هذه الاحكام “السياسية” الظالمة بغير دليل، وأدلة وجودها كثيرة.
بعد سجن أكثر من ثلاث سنوات خرج الخولي بوساطة من ابن بلده رامي دالاتي -رحمه الله- بضماناتٍ ومواثيق ألا يروي للناس عن ظلمه من قبل قيادة جبهة النصرة ثم الهيئة شيئاً، فهذا الشرط يُطلب من كلِّ المعتقلين المعروفين، وسبحان الله كان يطلب مني كلما طُلِبتُ إلى فرع من أفرع مخابرات النظام المجرم أو اعتُقلت، “لا تتكلم عما حدث معك هنا بشيء، وإلا….”.
أثار مصطلح “قتل المصلحة” الذي وُضِع في المدرسة التي تخرجت منها النصرة -وله جذور تاريخية- كلاماً كثيراً، وتحدث عن هذا قيادات من النصرة يُنكرون على تنظيم الدولة بعد الخلاف بينهم، حيث بدأ تنظيم الدولة بالإكثار من تصفية الخصوم “لمصلحة الدين والجهاد”!، واصطف أهل الشام في هذا الخلاف مع النصرة ودافعوا عنها ودعموها، لا لشيءٍ إلا لأنها أقرب وأرحم بهم من الدولة كما كانوا يظنون.
لكن بلسان الحال ظهر مصطلح “ظلم المصلحة” الذي يتضمن مهاجمةَ الفصائل وحلَّها وأخذَ أسلحتها أو أتاوات منها، وملاحقةَ أفرداها وأخذَ سلاحهم وإن كان ملكاً شخصياً، واعتقالَ ذا وقتل ذا وتهجيرَ ذاك، ثم الاستيلاء على إدارة القرى والمدن والمناطق المحررة وإعادة انتاج الذات في كل ما تستطيع النصرة أو فتح الشام أو الهيئة الوصول إليه، عن طريق أشخاص مؤتمين مؤكدي الولاء، وتأكيد الولاء يكون عن طريق المصلحة أيضاً.
“الجبهة تحمي أبناءها” وتُسيِّر الارتال لنصرة أحد “الإخوة”، هذا جعل الكثيرين ينتسبون إليها بولاءٍ وإخلاصٍ مصلحيٍّ، ودافعت الجبهة ثم الهيئة عن الكثيرين ممن هناك مصلحةٌ في بقائهم، وامتنعت القيادة عن محاسبةِ الكثيرين ممن شاع فسادهم وإجرامهم وظلمهم بسبب المصلحة، ففلانٌ ذو خبرةٍ وولاءٍ لا يمكن تعويضه، وفلانٌ عنده كُتلةٌ كبيرةٌ تغضب لغضبه، وفلانٌ ندخل عن طريقه المنطقة الفلانية (الأمثلة بالأسماء موجودة لكن لا يسع المقام لإفرادها)، واكتفت القيادة ب”جمع الملفات” عن الصالح والطالح للتهديد بها وضمان الولاء والارتباط المصلحي، وهذه طريقة معروفة أنكرها الشرع ولم يستخدمها سلفنا وقَذَرَتها أنفس عامة المسلمين وأهل الفطرة السَّوِيَّة.
عمدت قيادة هيئة تحرير الشام، التي هي قيادة النصرة ذاتها، إلى ملاحقة واعتقال كل من يخالف توجهها أو ينتقدها، ولو كان بالرأي والكلمة المؤيدة بالحجة، بل أصحاب الرأي والكلمة هم الملاحقون أكثر من غيرهم، يدخل أحدهم السِّجن بلا تهمةٍ أو بتهم غير واضحة تشبه تهمة “توهين الشعور الوطني والانتماء القومي”، أو توضع التهمة ويحاولون اثباتها بعد الاعتقال، ويخرج من السجن بغير محاكمة يدافع فيها عن نفسه علناً غير مُتَعتَع.
أحمد رحال (لا تهمة ولا محاكمة ونُشِرت بعض محتويات جواله)، أبو العبد أشداء (عدة تهم بسبب كلمته “كي لا تغرق السفينة” التي هي نصح لهم، وخرج بعد مساومةٍ وأخذ ورد)، أبو حمزة الكردي (داعية مقرب من أبي العبد وأبي شعيب وأبي اليقظان، له مواقف معلنة ينتقد فيها قيادة الهيئة)، أبو مالك التلي (قيادي ترك الهيئة ليجاهد ضمن تشكيل جديد سجن وأخرج بعد مفاوضات معه داخل السحن)، توقير شريف ومرافقه (عامل إغاثة بريطاني مسلم محبوب من أهل الشام، تهمته دعم “مجاميع” من غير الهيئة، كلمة مجاميع تكفي لتعبر عن قائلها وطريقة تفكيره)، بلال عبدالكريم ومرافقه (بلال جريمته الدفاع عن العدالة والمظلومين، بعد اعتقال مرافقه لأيام برأه الجلاد من التهم المنسوبة إلى بلال!!!)، أبو محمد عاصم (شرعي أنصار الدين، لا تهمة ولا دليل، ينتمي إلى فصيل آخر ويختلف مع قيادة الهيئة بالرأي)، أبو يحيى الجزائري ( معتقل مصاب ومتهم بالاحتطاب والغلو، ولا نعلم تأكيد هذا ونفيه حيث لا محاكمة علنية، لكن التهمتين مؤكدتان في حق الكثيرين ممن هم مع الهيئة الآن)، أبو عمر منهج ( لم يخضع لمحاكمة وقد كان غُدر به بعد عهد في عرب سعيد، وهذا قديم حديث فنقض العهد هنا لمصلحة الدين والجهاد!!!)…. وغيرهم.
أمثلةٌ كثيرةٌ قديمةٌ وحديثةٌ، وملاحقون كثرٌ وترتيباتٌ وخططٌ أمنيةٌ في هذا السياق، كل ذلك لأن هؤلاء المشغِّبين من قديم وحديث لا يقدِّرون المصلحة التي تهدف إليها القيادة، وهي إقامة الشرع والعدل لكن بعد حين وعن طريق البطش والظلم، فالمصلحة اللاحقة تبرر الظلم السابق، “ظلم المصلحة” بكل ما تحتوي كلمة ظلم من جرائم.
هنا لا بد من التأكيد أن العدل عامٌّ، فمن يطالب بالعدل لأنصار الدين والحراس وأبي عمر منهج وأبي يحيى الجزائري، ويشمئز من ذكر اسم حزم وأبي عبدالله الخولي “مثلاً” فهو ظالمٌ، ومن يحصر الحقوق ببعض الاشخاص والجماعات دون غيرهم من عامة المسلمين فهو ظالم، وإن أكثر من يستحق النصرة هو الصحفي الأمريكي بلال عبدالكريم الذي فهم المطلوب، ونادى للجميع بدن استثناء بإجراءاتٍ قضائيةٍ شفّافةٍ علنيَّةٍ يحكم فيها القاضي ويحكم عليه عموم الناس بأنه عادلٌ أو ظالمٌ.
زمن المصالح المبهمة الموهومة والوكالات الجهادية الحصرية والعلاقات السرية انتهى، فالجهاد جهادُ المسلمين، والعدالة يستحقها كلُّ المسلمون وغير المسلمين، فالعدل عام والظلم محرمٌ لذاته، وكما أكدت القيادة المجتهدة مسترشدة بكلام المقدسي الذي أنكرته أنه لا يصح اقامة الحكم الإسلامي عبر الديمقراطية، فإنه لا يصح إقامة الحكم الإسلامي عن طريق الظلم والعسف والافتراء، وبهذا لن يقوم.
والظلمُ الأكبرُ هو نسبُ الظلم إلى الشرع بتبريراتٍ كاذبةٍ انكشفت للقريب وللبعيد، ولا يصدقها أعوان الظلمة لكن مصالحهم الشخصية تصدقها وتتماهى معها وتروجها.
المصلحة التي تنادون بها ليست حكراً عليكم ولا وسيلةً تكيفونها برأيكم، بل هي عامة لا نقصِّر في الوصول إليها وتحقيقها، لكن الطريقة تختلف، وإننا لننكر الظلم وسيلةً إلى تحقيق الشرع والعدل… ولن يتحقق بها، ولا نرضى بالاستبداد والتَّفرُّدِ والاستخفاء في تقدير المصالح والسَّعي لها والتمادي في تقدير الوسائل والتوسل بها، ولا ينهي هذه الحالة العضال التي تفضي إلى الندامة إلا الشورى العامة حقيقية التمثيل التي أنتم لها كارهون.
والله لو تواضعتم لله وتركتم الأمر شورى لأهله لكنتم منهم ولصلح الأمر، فاتقوا الله وأصلحوا وإلا فما يرد سهام الليل راد، فوفقوا أنفسكم وانصروا أنفسكم واصرفوا القصاص الإلهي للمظلومين عن أنفسكم إن استطعتم، وهيهات.
اللهم عليك بكل ظالمٍ، رده عن ظلمه بالهداية أو اقصم ظهره واجعله عبره وأرح المسلمين منه، اللهم ولِّ علينا أهل طاعتك وولايتك ووفقهم إلى الخير، واصرف عنا الشرار الفاسدين راغمين مخذولين غير مأسوف عليهم، اللهم آمين.
{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود : 88]
أبو يحيى الشامي
5 محرم 1442
أبو يحي الشامي