آفة الاستعجال | كتابات فكرية | مجلة بلاغ العدد السابع عشر ربيع الأول 1442هجرية
الدكتور: أبو عبد الله الشامي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
يقول تعالى: {خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ}.
يقول ابن كثير رحمه الله: «وقوله: {خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ}، كما قال في الآية الأخرى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} أي: في الأمور، والحكمة في ذكر عجلة الإنسان هاهنا؛ أنه لما ذكر المستهزئين بالرسول صلوات الله وسلامه عليه، وقع في النفوس سرعة الانتقام منهم واستعجلت، فقال الله تعالى: {خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} لأنه تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، يؤجل ثم يعجل، وينظر ثم لا يؤخر؛ ولهذا قال: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي} أي: نقمي وحكمي واقتداري على من عصاني، {فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ}» انتهى كلامه.
فالإنسان طبع على العجلة، ولكن سنن الله الكونية والشرعية ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، ولهذا كانت التربية العميقة على معاني الثبات والصبر والتوكل الحقيقي من الرسل عليهم السلام لأتباعهم في كل زمان ومكان، ومن ذلك ما رواه البخاري رحمه الله عن أبي عبد الله خباب بن الأرت قال: «شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: (قد كان مَن قبلكم يُؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض، فيُجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه، واللهِ ليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئبَ على غنمه، ولكنكم تستعجلون)» يقول الشيخ محمد الرميح فرج الله عنه: «وتنسون أن لله سنةً لا تتخلف، وقدرًا مكتوبًا لا يتأخر، تنسون ويزيغ البصر عن أن النصر مع الصبر.. ولكنكم تستعجلون.. فتظنون أن النصر منحة سهلة مبذولة لكل أحد! تظنون أن الفتح شأن قريب يطوله كل من مدّ يده.. ولكنكم تستعجلون.. فتغفلون عن موانع النصر وعوائق الفتح.. وتريدون النصر قبل أن يغربل الصف، ويتميز الصادقون، ويُنفى عن الطريق كل فسل خَرِب القلب؛ يشوّه بناء الأمة الصقيل، وبناء الأمة لا يقبل الخبث ولكنكم تستعجلون.. وتطمعون في نصر قريب سهل يذبل في نفوسكم وهجُه فيسهل عليكم تضييعه!.. ولكنكم تستعجلون.. فتبغون فتحًا لم تطهره الدماء والدموع، ولم تبذل فيه المهج والأموال، فلا تتعجلوا.. وانظروا للمُثُل الأولى، انظروا إلى السابقين في هذا الطريق، إلى الأسوة الحسنة.. فيمن كان قبلكم.. ولو كان النصر نفحة ميسورة تتنزل بمجرد صدق صاحب المبدأ في مبادئه؛ لكان أولى الناس بذلك الأنبياء الذين: {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ}».
هذا؛ وإن الاستعجال لقطف الثمرة يجعل البعض يحرق المراحل معرضًا عن السنن الكونية والشرعية، فلا يحرم من الثمرة فحسب، بل قد يقع في نقيض ما سعى إليه، يقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله لابنه المتحمس: «لا تَعْجَلْ يا بني؛ فإن الله قد ذمَّ الخمر في القرآن مَرَّتَيْن، وحَرَّمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الحقَّ على الناس جملةً، فيدفعوه جملةً، ويكون من هذا فتنة».
ويقول الشيخ الطريفي فرج الله عنه: «قد يقع في المؤمن من الغيْرة والحمية لله ولدينه ما يجعله يتعجل حكمًا قبل تمكينه، فلا يجد الحُكم أرض تمكين فيسقط وينهار؛ فإن التمكين للتكليف كالأرض المستوية لقواعد الكرسي، فاستقرار التكليف ودوامه باستواء التمكين، ومن أقام تكليفًا على غير تمكين تكلف في تثبيته تكلفًا يشق عليه مشقة شديدة، وغالبًا أنه لا يدوم إلا مع مخالفة أمر الله، فيعصي الله في الدفع عما استعجل إقامته من حيث يريد أن يُرضيَهُ؛ لأنه يخشى أن يقع في التفريط أن تسقط شرائع الله وهو يراها، فيقع في مخالفة أمر الله في تثبيتِها، وقد كان في سعةٍ لو عرف مراحل التمكين في إقامة دين الله التي بيّنها الله لنبيه، ولو مات العبد وهو يسير إلى التمكين لآتاه أجر النهاية ولو كان في البداية؛ كما قال تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} فالله احتسب الأجر لمن خرج من بيته قاصدًا الهجرة، ولو كان على عتبة بابه، ما لم يُقم في داره راكنًا إلى دنياه».
هذا وإن المتأمل لمسيرة جماعات الإسلام الحركي يدرك بشكل واضح أثر استعجال الثمرة على مسيرة ومنهج هذه الجماعات، حيث يلحظ مساران:
1- المسار الأول يتلخص بالجماعات التي استطالت طريق النصر فقادها ذلك إلى التنازل عن المبادئ وولوج وهم التصالح والتعايش مع المنظومة الدولية الجاهلية، عبر السبل التي رسمتها والأدوات التي وضعتها.
2- المسار الثاني يتلخص بالجماعات التي تحرق المراحل وتستعجل الخطوات نحو النصر والتمكين دون الأخذ بالأسباب الشرعية والكونية.
وكلا المساران كانت عواقبه ونتائجه وخيمة تنوعت بين الاحتواء والاستخدام والإنهاء للمسار الأول، والعزل والشيطنة والاستئصال في المسار الثاني.
* وفي ضوء ما سبق؛ يتضح أن التعاطي السني مع آفة الاستعجال يكون بالتربية العميقة على معاني لزوم الحق والثبات عليه والتوكل الحقيقي على الله، مع الأخذ بالأسباب الشرعية والكونية، الأمر الذي يمنع:
1- استطالة طريق النصر المفضي للتنازل والوقوع في فخاخ المنظومة الدولية الجاهلية.
2- استعجال الخطوات وحرق المراحل المفضي للطغيان وسهولة العزل والشيطنة والاستئصال.
والحمد لله رب العالمين.
د. أبو عبد الله الشامي
لمتابعة مقالات العدد السابع عشر ربيع الأول 1442هجرية
– هكذا نصروه – التحرير
الركن الدعوي
-الشهوة أصل الشبهة – الشيخ أبو اليقظان محمد ناجي
– عقائد النصيرية 10 – الشيح محمد سمير
– أحكام الجهاد مع الإمام الفاجر – الشيخ أبو شعيب طلحة المسير
– ويمشي في الأسواق – الشيخ همام أبو عبد الله
– حب النبي صلى الله عليه وسلم – الشيخ أبو حمزة الكردي
صدى إدلب
– إدلب في شهر صفر 1442هـ – أبو جلال الحموي
– لقطة شاشة – أبو محمد الجنوبي
– مواقيت الصلاة في إدلب لشهر ربيع الأول 1442هـ – رابطة العالم الإسلامي
كتابات فكرية
– آفة الاستعجال – د. أبو عبد الله الشامي
– المعاركُ الجَّانبيةُ ومرارةُ الخُذلان – الأستاذ أبو يحيى الشامي
– أفغانستان جراح وآمال – إحسان الله (أنس الأفغاني)
– الحق أقوى من إعلامهم – الأستاذ خالد شاكر
ركن المرأة
– طريق الهداية الأستاذة – نسمة القطان
الواحة الأدبية
– بين الإيمان والحب – الأستاذ غياث الحلبي
لتحميل نسخة من المجلة BDF اضغط هنا
لمتابعة قناة مؤسسة بلاغ الإعلامية على التليجرام تابع