نَبْعَةُ الصَّامِدِيْنْ – الأستاذ أبو يحيى الشامي
الأستاذ: أبو يحيى الشامي
يميلُ مُعظَمُ النَّاسِ النَّاظرينَ إلى الاختصارِ والاختزالِ، ويميلُ مُعظَمُ المنظورِ إليهِم إلى الحصرِ والاحتكارِ، إذا كان المنظورُ إليه إنجازاً كبيراً مُعتَبراً، والحقُّ أنَّ الإنجازَ الكبيرَ المُعتَبرَ يحتاج إلى مُنجِزٍ كبيرٍ مُعتَبرٍ ليقومَ بهِ.
إنَّ الإنجازاتِ الأمَمِيَّةِ تقومُ بها الأممُ، ولا يمكن أن تُنسبَ إلى حزبٍ أو جماعةٍ أو فردٍ إلا في الأذهانِ والأنظارِ القاصرةِ، مهما كان دورُ هذه الجماعةِ أو هذا الفردِ، ولقد ذكر الله إنجازاتِ أمَّةِ الإسلامِ منذ نشأتِها، فشمِلَ المؤمنينَ {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} بالذِّكرِ والثَّناءِ، والذين مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم كلُّ المؤمنينَ، وليس من ذُكِرَ من الصَّحابة وعلِمنا اسمَهُ فقط.
وسواءٌ كان الذِّكرُ للإنجازاتِ والانتصاراتِ أو للتراجعاتِ والانكساراتِ يخطئُ من يختصرُ الصُّورةَ ويجعلها لفردٍ أو لأفرادٍ، هذا مع الإقرارٍ بضرورةِ وجودِ الرَّمزِ والرَّمزِيَّةِ، لكن مع عدمِ إغفالِ النَّبعِ الأصلِ الذي خرجَ منه صُنَّاعُ الحدثِ على ترتيبِ قدراتهم ومدى تأثيرهم.
{وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال : 62]، نعم لقد نصرَ الله نبيَّه بالمؤمنينَ كلِّ المؤمنينَ ضعيفِهم قبل قويِّهم، وصاحبِ الدُّعاء قبل مقاتِلهم، بنبعتِهم العامَّةِ التي تُنبِتُ ذوي التَّخصُّصاتِ ينطلقونَ منها ويستنِدونَ إليها، و”إن المُنبَتَّ لا أرضاً قطعَ ولا ظهراً أبقى”.
حروبُ أبي بكرٍ التي انتصرَ فيها على المرتدينَ، وفتوحاتُ عمرَ و”عدلُ عمرَ”، والوصولُ إلى الهندِ والصينِ وفرنسا، وانتصارُ صلاحِ الدِّينِ على الصليبيينَ، وكسرُ قطزَ للتَّتارِ، وفتحُ محمدٍ الفاتح للقسطنطينيةِ، وصمودُ وإنجازُ الطَّلبَةِ في أفغانستانَ مؤخراً، كلُّها ثمرةُ جهادِ الأمَّةِ لمن يرى بعينِ الوعي والاعتصامِ والتَّعصُّبِ للدِّينِ وأهلهِ بالعمومِ وليس بعين الاحتكارِ والتَّخصيصِ.
وإنَّ اتباعَ غيرِ سبيلِ المؤمنينَ، أو التَّنكبَ لهم وهدرَ حقوقهم ومنعَهم من القيامِ بواجباتهم، أو سرقةَ إنجازاتِهم ونسبَها إلى خاصَّةٍ لا تستطيعُ القيامَ بالإنجازِ، ولا القيامَ بأعباءِ استحقاقاتِه وما يترتبُ عليه، ظلمٌ كبيرٌ عاقبتهُ وخيمةٌ، لا يسلمُ منها الفاعلُ والسَّاكتُ.
إنَّ معركةَ الحقِّ ضدَّ الباطلِ، والإيمانِ ضدَّ الكفرِ، والعدلِ ضدَّ الظلمِ، يلزمها نبعةُ صامدينَ يستمرُّ تدفُّقُها، وتكونُ قويَّةً وعصيَّةً على الانحرافِ أو الاختزالِ والكسرِ، على عكسِ الأجزاءِ المنبتَّةِ القاسيةِ التي تُكسَرُ والطريَّةِ التي تُعصَرُ أو تتلوَّى وتُضيِّعُ الأمانةَ، ولا تستطيعُ التجدُّدَ بغيرِ عودةٍ إلى الأصلِ.
أمةٌ من النَّاسِ صبروا على الخوفِ والجوعِ ونقصِ الأموالِ والأنفسِ والثمراتِ، وتحمَّلوا القصفَ والقتلَ وفقدَ فَلذاتِ الأكبادِ، وثبتوا على حبِّ الدِّينِ والدَّعوةِ إلى تحكيمِ الشَّرعِ، واستمروا في التَّضحيةِ بالكثيرِ من الأدنى لنيلِ الأعلى، لا يمكن أن يَنسى النَّاظِرُ المنصِفُ سعيَهم، ولا يجوزُ أن يُختزلَ في اسمٍ أو أسماءٍ، فإن كان لها حضورُها ورمزيتُها تُذكرُ وتُذكرُ أكثرَ منها نبعةُ الصَّامدينَ، فالفضلُ بعدَ اللهِ يعودُ إليهِم ولا ريب.
هذا يختصرهُ قولُ الشَّاعرِ محمد مهديّ الجواهري:
سلامٌ على نبعةِ الصَّامدين
تعاصَتْ على مِعولِ الكاسرِ
وليسَ على غصنٍ ناعمٍ
رشيقٍ يميل مع الهاصِرِ
{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود : 88].
نَبْعَةُ الصَّامِدِيْنْ – الأستاذ أبو يحيى الشامي /كتابات فكرية / / مجلة بلاغ العدد السادس عشر، لشهر صفر ١٤٤٢
هنا بقية مقالات العدد السادس عشر من مجلة بلاغ الشهرية لشهر صفر 1442