أثر البناء العقدي في الصراع مجلة بلاغ العدد ٥٦ – جمادى الآخرة ١٤٤٥ هـDecember 21, 2023

د. أبو عبد الله الشامي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:

فقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لأصحابه: «تمنوا

فقال بعضهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهبا أنفقه في سبيل الله وأتصدق

وقال رجل: أتمنى لو أنها مملوءة زبرجدا وجوهرا فأنفقه في سبيل الله وأتصدق

ثم قال عمر تمنوا فقالوا: ما ندري يا أمير المؤمنين فقال عمر: أتمنى لو أنها مملوءة “رجالا” مثل أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة وحذيفة بن اليمان» وهذا الأثر يبين فقه الفاروق رضي الله عنه حيث الحرص على ما هو أغلى من الذهب والفضة وهم الرجال الأحرار ممن جعلوا الإسلام قضيتهم والجهاد سبيلهم فعاشوا يحملون لواء الإسلام دعوة وجهادا وماتوا على ذلك ووصفهم ربنا في محكم تنزيله فقال:{ مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ رِجَالࣱ صَدَقُوا۟ مَا عَـٰهَدُوا۟ ٱللَّهَ عَلَیۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن یَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُوا۟ تَبۡدِیلࣰا} [الأحزاب: ٢٣]

يقول السعدي رحمه الله: “ولما ذكر أن المنافقين، عاهدوا اللّه، لا يولون الأدبار، ونقضوا ذلك العهد، ذكر وفاء المؤمنين به، فقال: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ } أي: وفوا به، وأتموه، وأكملوه، فبذلوا مهجهم في مرضاته، وسبَّلوا أنفسهم في طاعته.

{فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} أي: إرادته ومطلوبه، وما عليه من الحق، فقتل في سبيل اللّه، أو مات مؤديًا لحقه، لم ينقصه شيئا.

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} تكميل ما عليه، فهو شارع في قضاء ما عليه، ووفاء نحبه ولما يكمله، وهو في رجاء تكميله، ساع في ذلك، مجد.

{وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} كما بدل غيرهم، بل لم يزالوا على العهد، لا يلوون، ولا يتغيرون، فهؤلاء، الرجال على الحقيقة، ومن عداهم، فصورهم صور رجال، وأما الصفات، فقد قصرت عن صفات الرجال.”

ووصفهم أيضًا جل في علاه فقال: {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}.

يقول السعدي رحمه الله: “أي: يسبح فيها الله، رجال، وأي: رجال، ليسوا ممن يؤثر على ربه دنيا، ذات لذات، ولا تجارة ومكاسب، مشغلة عنه، {لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ} وهذا يشمل كل تكسب يقصد به العوض، فيكون قوله: {وَلَا بَيْعٌ} من باب عطف الخاص على العام، لكثرة الاشتغال بالبيع على غيره، فهؤلاء الرجال، وإن اتجروا، وباعوا، واشتروا، فإن ذلك، لا محذور فيه، لكنه لا تلهيهم تلك، بأن يقدموها ويؤثروها على {ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} بل جعلوا طاعة الله وعبادته غاية مرادهم، ونهاية مقصدهم، فما حال بينهم وبينها رفضوه، ولما كان ترك الدنيا شديدا على أكثر النفوس، وحب المكاسب بأنواع التجارات محبوبا لها، ويشق عليها تركه في الغالب، وتتكلف من تقديم حق الله على ذلك، ذكر ما يدعوها إلى ذلك -ترغيبا وترهيبا- فقال: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} من شدة هوله وإزعاجه للقلوب والأبدان، فلذلك خافوا ذلك اليوم، فسهل عليهم العمل، وترك ما يشغل عنه”.

وهذه الصفات تجلت واضحة في الفتوحات والانتصارات التي سطرها جيل الصحابة ومن اقتدى بهم فكانوا حقا رهبان الليل فرسان النهار جاء في البداية والنهاية لابن كثير رحمه الله “روى أحمد بن مروان المالكي في المجالسة: حدثنا أبو إسماعيل الترمذي، حدثنا أبو معاوية بن عمرو، عن أبي إسحاق قال: كان أصحاب رسول الله ﷺ لا يثبت لهم العدو فواق ناقة عند اللقاء.

فقال هرقل وهو على أنطاكية لما قدمت منهزمة الروم: ويلكم أخبروني عن هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم أليسوا بشرا مثلكم؟

قالوا: بلى.

قال: فأنتم أكثر أم هم؟

قالوا: بل نحن أكثر منهم أضعافا في كل موطن.

قال: فما بالكم تنهزمون؟

فقال شيخ من عظمائهم: من أجل أنهم يقومون الليل ويصومون النهار، ويوفون بالعهد، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويتناصفون بينهم، ومن أجل أنا نشرب الخمر، ونزني، ونركب الحرام، وننقض العهد، ونغصب، ونظلم، ونأمر بالسخط وننهى عما يرضي الله، ونفسد في الأرض.

فقال: أنت صدقتني”.

كل ما سبق يوضح لنا أثر البناء العقدي و الجهادي في بروز جيل الصحابة الفريد ليكون محل اقتداء من جميع المسلمين على مر الزمان وأنه كلما كانت مركزية الدين والآخرة حاضرة والبناء العقدي راسخا والتربية الجهادية قائمة في حياة المسلمين كلما حسن الاقتداء وأثمر ذلك عزا وفتوحات وانتصارات «لا تَزالُ طائفةٌ من أُمَّتي يقاتِلونَ على الحقِّ ، ظاهِرِينَ على مَن ناوَأَهُمْ ، حتى يقاتِلَ آخِرُهم المسيحَ الدجالَ» وبالعكس فإنه كلما تم الركون للدنيا وزخرفها واختل البناء العقدي وضعفت التربية الجهادية كلما كان تسلط الأعداء أكبر والذلة أكثر ولا ينفع في خضم ذلك بناء مادي بشري أو عمراني «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ ، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ».

والحمد لله رب العالمين. 

Exit mobile version